صفحة رقم ٢٩١
العفو الذي هو أدنى المنازل أسعدت بأعلاها فقال :( ورضوان ) أي بأن يكون راضياً عن الله للرضى بقضاء الله وذلك يكون إذا قصر نظره على الله فإنه لا يتغير أبداً بقضاء من أقضيته كما أن الله - الذي هو راحمه - لا يتغير، ومن كان نظره لطلب حظ له كان أبداً في تغير من الفرح غلى الحزن ومن السرور إلى الغم ومن الراحة إلى الجراحة ومن اللذة إلى الألم، فثبت أن الرحمة التانة لا تحصل إلا للراضي بقضاء الله ويكون الله راضياً عنه فتكون نفسه راضية مرضية، ولهذا لم يقيده ب ( منه ) وهذان في الدنيا والآخرة ولما ذكر هذه الجنة الروحانية المنعم بها في الدنيا، أتبعه بيان الجنة الروحانية البدنية الخاصة بالدار التي فيها القرار فقال :( وجنّات ) أي بساتين كثيرة الأشجار والثمار ) لهم فيها نعيم ) أي عظيم جداً خالص عن كدر ما، ودل على الخلود بقوله :( مقيم ( ثم صرح بخلودهم فيها بلفظ الخلود ليكون أقر للنفس فقال :( خالدين فيها ( وحقق أمره بقوله :( أبداً ( ثم استأنف المدح لذلك مؤذناً بالمزيد بقوله :( إن الله ) أي الذي له الغنى المطلق والقدرة الكاملة ) عنده أجر عظيم ( وناهيك بما يصفيه العظيم دالاًّ بالعظم، وخص هؤلاء المؤمنين بهذا الثواب المعبر عن دوامه بهذه العبارات الثلاث المقرونه بالتعظيم والاسم الأعظم، فكان أعظم الثواب، لأن إيمانهم أعظم الإيمان.
ولما فرغ من العاطفة بمحاسن الأعمال، شرع في العاطفة بالأنساب والأموال، وقدم الأول إشارة إلى أن المجانسة في الأفعال مقدمة على جميع الأحوال، ولما كان محط الموالاة المناصرة، وكانت النصرة بالآباء والإخوان اعظم من النصرة بغيرهم، لأن مرجعها إلى كثرة الأعوان والأخدان، اقتصر عليها فقال :( يأيها الذين آمنوا ) أي أقروا بألسنتهم بالإيمان بربهم معرضين عما سواه من الأنداد الظاهرة صدقوا ادعاءكم ذلك بأن ) لا تتخذوا ) أي تتعمدوا وتتكلفوا أن تأخذوا ) آباءكم وإخوانكم أولياء ) أي على ما يدعو إليه الطباع وتقوية الأطماع فتلقوا إليهم أسراركم وتؤثروا رضاهم والمقام عندهم ) استحبوا ( اي طلبوا وأوجدوا ان أحبوا ) الكفر ( وهو تغطية الحق والتكذيب ) على الإيمان ( نبه بصيغة الاستفعال على أن الإيمان لكثرة محاسنه وظهور دلائله معشوق بالطبع، فلا يتركه أحد إلا بنوع معالجة ومكابرة لعقله ومجاهدة.
ولما كان أعز الأشياء الدين، وكان لا ينال إلا بالهداية، وكان قد تقدم سلبها عن الظالم، ورهبهم من انتزاعه بقوله :( ومن يتوالهم ) أي يتكلف أن يفعل في أمرهم ما يفعل القريب مع قريبه ) منكم ) أي بعد ما أعلمكم الله في أمرهم مما أعلم ) فأولئك ) أي المعبدون عن الحضرات الربانية ) هم الظالمون ) أي لوضعهم الموالاة في غير موضعها بعد تقدم إليهم سبحانه بمثل هذه الزواجر، وهذا رجوع بالاحتراس إلى