صفحة رقم ٥٠٤
كان مرادهم بالثني الاسستار من الله تعالى فالأمر في عود الضمير غيه سبحانه واضح، وإن كان من النبي ( ﷺ ) فالاستخفاء منه استخفاء ممن أرسله، ثم أعلم أن ذلك غير مغن عنهم لأنه يعلم سرهم وعلنهم في أخفى أحوالهم عندهم، وهو حين استغشاهم ثيابهم، فيغطون الوجوه التي تستقر عن بعض ما في القلوب للمتوسمين فقال :( ألا حين يستغشون ثيابهم ( اي يوجدون غشيانها أي تغطيتها لرؤوسهم، لاستخفاء كراهية لسماع كلام الله وأخبار رسوله ( ﷺ ) ) يعلم ما يسرون ) أي يوقعون إسراره في أيّ وقت كان ومن أيّ نوع كان من غير بطء لتدبر أو تأمل، ولما لم يكن بين علم السر والعلن ملازمة لاختصاص العلن بما يكون لغيبة أو اختلاف بأصوات ولفظ أو اختلاف لغة ونحو ذلك قال تصريحاً :( وما يعلنون ) أي يوقعون إعلانه لا تفاوت في علمه بين إسرار وإعلان، فلا وجه لاستخفائهم نفاقاً، فإن سوق نفاقهم غير نافق عنده سبحانه.
ثم علله بما هو أدق من ذلك كله مع شموله للنوعين فقال :( إنه عليم ) أي بالغ العلم جداً ) بذات الصدور ) أي بضمائر قلبوهم التي في دواخل صدورهم التي يثنونها من قبل أن يقع لهم إضمارها، بل من قبل ان يخلقهم ؛ وأصل الثني العطف، ومنه الاثنان - لعطف احدهما على الآخر، والثناء - لعطف المناقب في المدح.
ولهذا لما قال العبد في الفاتحة ) الرحمن الرحيم ( بعد الجمد قال الله تعالى : أثنى عليّ عبدي - كما في حديث ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ) و الاستثناء - لعطف الثاني على الأول بالاستخراج منه ؛ والاستخفاء : طلب خفاء الشيء : ثم اتبع ذلك بما يدل على شمول العلم والقدرة معاً فقال :( وما ( وأغرق في العموم بقوله :( من دآبة ( ودل على أن الانتفاع بالأموال مخصوص بأهل العالم السفلي بقوله :( في الأرض ( اي صغرت أو كبرت ) إلا على الله ( اي الملك الأعلى الذي، له الإحاطة وحده لا على غيره ) رزقها ( اي قوتها وما تنتفع وتعيش به بمقتضى ما أوجبه على نفسه، تحقيقاً لوصوله وحملاً على التوكل فيه، لأن الإفصال على كل نفس بما لا تعيش إلا به ولا يلائمها إلا هو مدة حياتها أدق مما مضى في العلم مع تضمنه لتمام القدرة، والآية مع ذلك ناظرة إلى ترغيب آية ) وأن استغفروا ربكم ( فالمراد : أخلصوا العبادة له ولا تفتروا عن عبادته للاشتغال بالرزق فإنه ضمنه لكم وهو عالم بكل نفس فلا تخشوا من أنه ينسى أحداً، وقال :( وفي الأرض ( ليعم ما يمشي على وجهها وما في أطباقها من الديدان ونحوها مما لا يعلمه إلا هو، لقد شاهدت داخل حصاة من شاطىء بحر قبرس شديدة الصلابة كأنها العقيق الأبيض دودة عندها ما تأكل، وأخبرني الفاضل عز الدين محمد بن أحمد