صفحة رقم ١٧٨
تسكيناً لقلوبهم وتسلية لنفوسهمن وأكد لما - لمن ينظر كثرة الكفاروقوتهم - من التوقف في مضمون الخبر ولا سيما إن كان كافراً، قائلاً :( لنهلكن ( بما لنا من العظمة المقتضية لنفوذ الأمر ؛ والإهلاك : إذهاب الشيء إلى حيث لا يقع عليه الإحساس ) الظالمين ) أي العريقين في الظلم، وربما تبنا على بعض من أخبرنا عنه بأنه كفر، وهو من لم يكن عريقاً في كفره الذي هو أظلم الظلم ) ولنسكننكم ) أي دونهم ) الأرض ) أي مطلقها وخصوص أرضهم، وأشار إلى عدم الخلود بالجار فقال :( من بعدهم ( بأن نورثكموها سواء قدرناهم على إخراجكم أم لا، فكأنه قيل : هل ذلك خاص بهم ؟ فقيل : لا، بل ) ذلك ) أي الأمر العالي المرام ) لمن خاف مقامي ) أي المكان الذي يقوم فيه من أحاسبه : ماذا تكون عاقبته فيه، وهو أبلغ من : خافني، ) وخاف وعيد ( لا بد أن أهلك ظالمه وأسكنه أرضه بعده، فاستبشروا بذلك الوعد من الله تعالى ) واستفتحوا ( على أعدائهم فأفلحوا وأنجحوا ) وخاب كل جبار عنيد ( فأهلكناهم كلهم، وكان لنا الغنى والحمد بعد إهلاكهم كما كان قبله ؛ والعناد : الامتناع من الحق مع العلم به كبراً وبغياً، من عند عن الحق عنوداً، والجبرية : طلب علو المنزلة بما ليس وراءه غاية في الصفة، فهو ذم للعبد من حيث إنه طالب ما ليس له ؛ ثم أتبعه ما هو كدليل على خيبته من أن سيره إلى ما أمامه من العذاب، فهو واقع فيه لا محالة وهو يشعر، وعبر عن غفلته عنه بقوله :( من ورائه جهنم ) أي لا بد أنه يتبوأها.
ولما كان المرجع وجود السقي للصديد مطلقاً، بني للمفعول قوله :( ويسقى ) أي فيها ) من ماء صديد ( وهو غسالة أهل النار كقيحهم ودمائهم ) يتجرعه ) أي يتكلف بلعه شيئاً فشيئاً لمرارته وحرارته، فيغص به ويلقى منه من الشدة ما لا يعلم قدرة الله إلا الله ) ولايكاد يسيغه ( ولا يقرب من إساغته، فإن الإساغة جر الشيء في الحلق على تقبل النفس ) ويأتيه الموت ) أي أسبابه التي لو جاءه سبب منها في الدنيا لمات ) من كل مكان ( والمكان : جوهر مهيأ للاستقرار، فهو كناية عن أنه يحصل له من الشدائد ما يميت من قضى بموته ) وما هو بميت ) أي بثابت له الموت أصلاً.
لأنا قضينا بدوام حياته زيادة في عذابه، والموتك عرض يضاد الإدراك في البنية الحيوانية ) ومن ورائه ) أي هذا الشخص، بعد ذلك في يوم الجزاء الذي لا بد منه، وما خلقنا السماوات والأرض إلا من أجله ) عذاب غليظ ( يأخذه في ذلك اليوم - مع ما قدمته له في الدنيا - وهو غافل عنه أخذ ما يكون من وراء، فيكون أشد كما هو الحال الآتي بغتة، أو يكون المعنى أن من بعد هذا العذاب في جهنم عذاباً آخر، لا تحتمل عقولكم وصفه بأكثر من الغلظ.
فلما فرغ من محاوراتهم، وما تبعها مما بين فيه أنه لا يغنيهم من بطشه شيء،