صفحة رقم ٣٥٥
ولا ينقصه طاعته لمن هو أقوى منه وأعلى يداً، لأن الله عز وجل قد جعل أمر الخلق في الدنيا مبنياً على أن يكون بعضهم تابعاً لبعض، وبعضهم قاهراً لبعض، وبعضهم محتاجاً إلى بعض، وكل صنف يخضع لمن هو أقوى منه ويذل له ويطيعه، وذلك ظاهر موجود في الناس على طبقاتهم، وفي الحيوانات على اختلافها، وليس يستغني عن ذلك أحد، ولا يذمه عاقل، وإذ كان الأمر كذلك فليس ينقصكم طاعة الروم، ولا الروم بأول من أطعتموهم وقد تقدمت طاعتكم لهم منذ سنين ؛ وقد ابتدؤوكم في هذا الوقت بالجميل، ودعوكم إلى المسالمة، وبذلوا لكم الأمان، وضمنوا لكم الإحسان، وظهر منهم الإشفاق على مدينتكم وقدسكم فاتقوا الله، وتلافوا أمركم، وأحسنوا النظر لمن بقي منكم، فارجعوا إلى ما كنتم عليه من طاعتهم لتبقوا وتتماسك أحوالكم، وتسلم هذه المدينة وهذا القدس الجليل قبل أن يهدم هذا الحصن الباقي فتهلكوا.
فصاح الخوارج بشتم يوسف والفرية عليه ورموه بالسهام والحجارة، فتباعد قليلاً وأغلظ لهم في الكلام وقال : يا معشر العصا أخبروني ما الذي حملكم على قتال الروم إن كنتم تقصدون بذلك صيانة القدي عن الأعداء فأنتم قد ابتذلتموه بالمعاصي نجستموه بما سفكتم فيه من الدماء الكثير ظلماً، وإن كنتم تريدون نصرة الأمة وإعزازها فأنتم تقتلونها بأيديكم وتبالغون في ظلمها والإساءة إليها، وهل يفعل الأعداء بكم أكثر مما فعلتموه ؟ أو يبلغون فيكم أثكر مما قد بلغتموه في أنفسكم ؟ أخبروني متى كان من تقدم من أمتنا أو تأخر يغلبون من يحاربهم ويستظهرون على أعدائهم بالعساكر والعدد دون الصلاح والتقوى ؟ وهل تخلص من تخلص من الشدائد إلا بطاعة الله والدعاء له ؟ وهل كانوا يغلبون إلا بنصر الله لهم ومعونته إياهم ؟ وهل كان ينصرهم إلا إذا أطاعوه واتقوه ؟ فلما عصوه سلط عليهم الأعداء ومكنهم منهم حتى قهروهم وأذلوهم، ولم ينتفعوا بعددهم وسلاحهم ولا قدروا على مقاومة الأعداء ببأسهم وقوتهم، وقد علمتم أن الله عز وجل كفى الصالحين في كل زمان أمر أعدائهم، فمنهم من دعا الله عز وجل عند الشدائد فاستجاب له بلا حرب، وأظهر الآيات العظيمة في معونتهم وكفايتهم، فبلغوا بذلك ما لم يكونوا يبلغون إليه بحولهم وقتهم، ومنه من حارب الأعداء واستعان بالله عز وجل فأعانه على عدوه وظفره به، ولم يفعل الله مثل ذلك مع العصاة ليظهر فضيلة الصالحين، اعتبروا بأبيكم إبراهيم عليه السلام لما أخذ فرعون امرأته أمل يضرب الله فرعون وأهله بالبلاء العظيم حتى خضع فانكسر ورد امرأة إبراهيم عليه السلام وهي سليمة، ثم أحسن إليه وأكرمه، فهل قدر إبراهيم عليه السلام على ذلك بالسيف والمحاربة أو بالصلاح والدعاء إلى الله عز وجل ؟ وكذلك فعل الله مع كانوا قد رحموه قبل ذلك، وراسل يوحانان وشمعون طيطوس يطلبان منه الأمان فقال : قد كنت طلبت إليكما ذلك قبل، فأما الآين فأنتما في قبضتي وليس لي عذر عند الله ولا عند أحد من الناس في استبقائكما.
فانحدرا ليلاً إلى القدس بأصحابهما فتلوا قائدين من الروم فأمر طيطوس بقتل من بقي في المدينة من اليهود ممن كان قد رحمه، فلما رأى أصحاب شمعون ذلك خافوا على أنفسهم، فأرسلوا إلى طيطوس أن يؤمنهم، فقتل شمعون رؤساءهم وهرب الباقون إلى طيطوس فآمنهم وكف أصحابه عمن بقي من اليهود في المدينة ؛ ثم هرب شمعون ويوحانان من جبل صهيون إلى مضوع استترا فيه، فتم استيلاء طيطوس على جميع البلد وهدم سور جبل صهيون، ولما طال عليهما الاستتار واشتد بهما الجوع خرجا إلى طيطوس فقتلهما، ثم رحل متوجهاً إلى رومية ومعه السبي والغنائم، وكان كلما نزل منزلاً يقدم جماعة ممن ظفر به من الخوارج غلى السباع التي معه حتى أفناهم، وكان العازر لما رأى إفساد شمعون وقتله من لم يكن له ذنب من اليهود قد علم أن لا مخلص لهم من البلاء، فخرج عنه قبل استيلاء الروم على البلد عنها وأقام في بعض المواضع، فلما رحل طيطوس مضى إلى قرية مصيرا فعمر حصنها، فسمع به طيطوس وهو بأنطاكية فرد إليه قائداً من قواده فحاصره، فلما عاين الهلكة دعا أصحابه إلى قتل قتل من خلفهم من العيال والاستقتال ليموتوا أعزة، فأجابوه إلى ذلك وقتلوا حتى قتلوا كلهم - فسبحان القوي الشديد، الفعال لما يريد.
ولما انقضى ذلك، كان كأنه قيل : أما لهذه المرة من كرة كالأولى ؟ فأطمعهم بقوله سبحانه تعالى :( عسى ربكم ) أي الذي عودكم بإحسانه ) أن يرحمكم ( فيتوب عليكم ويكرمكم ؛ ثم أفزعهم بقوله تعالى :( وإن عدتم ) أي بما نعلم من دبركم إلى المعصية مرة ثالثة فما فوقها ) عدنا ) أي بما تعلمون لنا من العظمة، إلى عذابكم في الدنيا، وقد عادوا غير مرة بما أشار إليه الكلام، وإن كان في سياق الشرط، ليظهر الفرق بين كلام العالم ويغره، وأشار غلى ذلك قوله في التوراة عقب ما مضى : وإذا تمت عليك هذه الأقوال كلها والدعاء واللعن الذي تلوت عليك فتب في قلبك وأنت متفرق بين الشعوب التي يفرقك الله فيها، واقبل إلى ربك واسمع قوله، واعمل بجميع ما آمرك به اليوم أنت وبنوك من كل قلبك، فيرد الرب سبيك ويرحمك، ويعود فيجمعك من جميع الشعوب التي فرقك فيها، وإن كان المبددون يا آل إسرائيل في أقطار الأرض يجمعك الله ربك من هناك ويقربك من ثم ويردك إلى الأرض التي ورثها أبوكم وترثون، وينعم عليكم وتكثرون أفضل من آبائكم، ويختن الله الرب قلبوكم وقلوب نسلكم إلى الأبد، تتقون الله ربكم من كل قلوبكم وأنفسكم لما يريحكم وينعمكم وينزل الله كل


الصفحة التالية
Icon