صفحة رقم ٣٥٧
لما رأيتكم بأجمعكم قد اتفقتم على محاربتهم وبعثتموني لم أخالفكم، وبذلت المجهود في مناصحتكم، وثبت في حصن يودنات إلى أن فنى أصحابي، وغلبني الأمر، ولم يبق لي حيلة، ثم حصلت مع الروم فما أساؤوا إليّ بل أحسنوا وأجملوا وعفو عني وأنا معهم إلى هذه الغاية على ما أحب، وقد كنت اجتهدت قبل حصولي معهم أن أهب إليكم فما تم لي ذلك، وأنا الآن أحمد الله تعالى إذ لم يسهل لي ذلك، فإني لو كنت معكم لنت إما أن أشارككم في أفعالكم هذه فأكون مخطئاً، أو أخالفكم فتقتلوني ظلماً، فتأملوا ما خاطبتكم به ولا تظنوا أن الله ينصركم، فإنكم لا تستحقون ذلك لأنكم قد أسخطتموه، واستدلواعلى ذلك بآية عين سلوان، فإنها قد كانت قريبة من الجفاف قبل أن ينزل بكم هذه العساكر، فلما نزلوا غزرت فصارت كالنهر لتعلموا أن الله تعالى يريد معونة أعدائكم عليكم، وأنا أعلم أن كلامي لا يؤثر فيكم ليتم ما قد حكم الله به كالحجارة بل هي أقسى وأصلب من الحجارة، لأن الحجر قد يؤثر فيه الماء إذا دام انصبابه عليه، وأنتم لا تؤثر فيكم المواعظ الكثيرة، ولا تلين قلوبكم ولا تنكسر، ولكن قد بلغت الغاية فيما يلزمني من نصيحتكم، فاقبلوا نصحي وأشفقوا على هذا القدس الجليل الذي بنته الأنبياء المقدسون والملوك العظماء، فإن بقاء عزكم وثبات أمركم مقرون ببقائه وعمارته، وإن خرب لم يبق لكم عز ولا إقبال ولا دولة، فاقبلوا ما بذله لكم ابن الملك من الأمان، وثقوا بعهده وما ضمنه من الإحسان، وأنا الضامن لكم عنه، وإن اتهمتموني بأني أخدعكم وأريد معاونة الروم عليكم فأنتم تعلمون أن أبي وأمي وزوجي الكريمة لعيّ وأولادي معكم، فإن ظهر لكم من طيطوس بعد مسالمتكم له ما تكرهون فاقتلوهم واقتلوني فقد وهبتكم دماءهم ودمي على ذلم.
ثم بكى يوسف بكاء شديداً، وكان طيطوس يسمع كلامه فرق له وأمر بإطلاق من كان من السبي في عسكره، وأطلق لهم أن يمضوا حيث شاؤوا فمال أكثر أهل المدينة إلى طاعة طيطوس، فمنعهم الخوارج ووكلوا بأبواب المدينة من يحفظها، وأمروا الموكلين أن يقتلوا كل من أراد الخروج، ولما طالب الحصار اشتد الجوع، وكان الخوارج يفتشون منازل الناس وينهبون الطعام ويقتلون من مانعهم عنه، فكان الناس يموتون في المدينة بالجوع، ومن أراد الخروج إلى ظاهر المدينة ليأخذ شيئاً من نبات الأرض قتله الخوارجن وإن قدر على الخروج قتله الروم، فأفناهم ذلك، وكان طيطوس إذا سمع ذلك رق لهم واستعطفهم، فلا يزيد استعطافه الخوارج إلا قسوة، ويخاطبونه بالقبيح ليكف عن ذلك لئسلا يميل معه الناس، فلما رأى ذلك جد في إخراب السور الثالث ليخلص الناس من الخوارج، فقسم عسكره أربعة أقسام ونصب كباشاً على الجهات