صفحة رقم ٣٦٠
على الرحيل، فجمع طيطوس أصحابه وقال : اعلموا أن كل من يعمل عملاً فإنما قصده إلى الغاية : ولذلك يصبر على التعب ليبلغ ما أراد، وربما كان آخر العمل أشق من أوله، فإن تركه ذهب تعبه ضائعاً وبقي عمله ناقصاً لا ينتفع به.
وضرب لهم أمثالاً في ذلك ثم قال : وأنتم قد صبرتم على محاربة هؤلاء القوم واستظهرتم عليهم إلى هذه الغاية حتى هلك رؤساؤهم وجبابرتهم، وخربت حصونهم ونفوا بالجوع والسف، ولم يبق منهم غير شرذمة يسيرة كالموتى، فأن انصرفتم كنتم قد ضيعتم تعبكم وأنتم علىأنفسكم أهنتموها عند كل من يسمع خبركم، ولو كنتم انصرفتم عنهم قبل هذا كان أحسن بكم، وأما الآن فلا عذر لكم في عجزكم عن محاربة قوم قد بلغ بهم الضر والجوع هذا المبلغ، فإن رجعتم عنهم طمع فيكم كل أحد، واجترأ عليكم كل من يخافكم، ولم لا تتأسون باليهود في الصبر والشجاعة مع فناء رجالهم، واجتماع المكاره عليهم، وانقطاع رجائهم، فصبرهم إما طمعاً في الظفر، أو أنفة من الغلبة، أو رغبة في بقاء الذكر، فأنتم أحق بذلك منهم لتدفعوا العار عن أنفسكم على أنكم قد صبرتم في أيام تيروس قيصر على محاربة هؤلاء القوم، وعملتم على أن لا ترجعوا عنهم إلا بعد الظفر، فلما ملك أسفسيانوس الذي هو أشجع من تيروس وأعظم بأساً، أردتم أن ترجعوا عنهم قبل أن تظفروا، فأيّ عذر لكم.
فلما سمعوا هذا ثبتوا.
ثم مضى جماعة منهم ليلاً، فصعدوا من تلك الثلمة ودخلوا إلى المدينة فكبروا، فانتبه اليهود وكانوا قد ناموا لطول تعبهم وضرهم، ولزم كل منهم مكانه، ومضى طيطوس إلى أصحابه فوقف عند السور إلى أن أصبحوا، فانهزم اليهود إلى القدس وتبعهم الروم فاقتتلوا في الصحن البراني، ولم يكن إلا السيوف لضيق الموضع، فكان بينهما قتال لم يكن فيما مضى لاستقبال الجميع، لأنهم حصلوا في موضع لا مطمع فيه بالسلامة إلا بالصدق في القتال، وكان الكل رجالة، فعظمت الحرب بينهم وعلت أصواتهم وضجيجهم حتى سمعت من البعد، وكثرت القتلى في الفريقين واستظهر اليهود آخراً وأخرجوا الروم قرب ربع النهار، وأمر طيطوس بهدم سور مضوع متصل بالقدس يسمى أنطونيا ليتسع المجال لأصحابه، فلما هدم ذلك انثلم سور القدس وسهلت الطريق إليه، فبادر اليهود وبنوه وأدخلوه في جملة القدس فصار مربعاً، فكان ذلك تصديق ما رأوه قبل ذلك مكتوباً على الحجر القديم المقدم ذكره ( إذا كمل بنيان القدس فصار مربعاً فعند ذلك يخرب بيت المقدس ) وكان اليهود نسوا ذلك، فلما رأوه تذكروا وعلموا أن المدة قد تمت وأنه سيخرب.
وكان يوم هذه الحرب العظيمة عيد العنصرة، فقرب طيطوس من القدس وكلمهم