صفحة رقم ٤٩٨
ولما كانت القرية لا تنافي التسمية بالمدينة، وكان التعبير أولاً أليق، لأنها مستقة من معنى الجمع، فكان ألقيق بالذم في ترك الضيافة لإشعاره ببخلهم حالة الاجتماع وبمحبتهم للجمع والإمساك، وكانت المدينة بمعنى الإقامة، فكان التعبير بها أليق للإشارة به إلى أن الناس يقيمون فيها، فينهدم الجدار وهم مقيمون فيأخذون الكنز، قال :( في المدينة ( فلذلك أقمته احتساباً ) وكان تحته كنز ) أي مال مدخور ) لهما ( لو وقع لكان أقرب إلى ضياعه ) وكان أبوهما صالحاً ( ينبغي مراعاته وخلفه في ذريته بخير.
ولما كان الإبلاغ إلى حد البلوغ والاستخراج فعل الله وحده، أسند إليه خاصة فقال :( فأراد ربك ) أي المحسن إليك بهذه التربية، إشارة إلى ما فعل بك من مثلها قبل النبوة كما بين ) أن يبلغا ) أي الغلامان ) أشدهما ) أي رشدهما وقوتهما ) ويستخرجا كنزهما ( لينتفعا به وينفعا الصالحين ) رحمة ( بهما ) من ربك ) أي الذي أحسن تربيتك وأنت في حكم اليتيم فكان التعب في إقامة الجدار مجاناً أدنى من الضرر اللازم من سقوطه لضياع الكنز وفساد الجدار، وقد دل هذا على أن صلاح الآباء داعٍ إلى العناية بالأنباء، روي عن الحسن بن علي رضي الله عهنما أنه قال لبعض الخوارج في كلام جرى بينهما : بم حفظ الله كنز الغلامين ؟ قال : بصلاح أبيهما، قال فأبي وجدي خير منه، قال أنبأنا الله أنكم قوم خصمون.
) وما فعلته ) أي شيئاً من ذلك ) عن أمري ( بل عن أمر من له الأمر، وهو الله.
ولما بان سر تلك القضايا، قال مقدراً للأمر :( ذلك ) أي لشرح العظيم ) تأويل ما لم يسطع ( يا موسى ) عليه صبراً ( وحذف تاء الاستطاعه هنا لصيرورة ذلك - بعد كشف الغطاء - في حيز ما يحمل فكان منكره غير صابر أصلاً لو كان عنده مكشوفاً من أول الأمر، وسقط - ولله الحمد - بما قررته في هذه القصة ما يقال من أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخبر في قول سليمان عليه السلام المخرج في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ( لأطوفن الليلة على مائة امرأة كلهن تلد فارساً يجاهد في سبيل الله، فلم تلد منهن إلا واحدة جاءت بشق آدمي أنه لو قال : إن شاء الله، لجاهدوا فرساناً أجمعون ) فأفهم ذلك أن لك نبي استثنى في خبره صدقة الله تعالى كما وقع للذبيح أنه قال :
٧٧ ( ) ستجدني إن شاء الله من الصابرين ( ) ٧
[ الصافات : ١٠٢ ] فوفى، فما لموسى عليه السلام - وهو من أولي العزم - فعل مع الاستثناء ما فعل ؟ فإن


الصفحة التالية
Icon