صفحة رقم ٥٢٨
ولما هالها هذا الأمر، أداها الحال إلى غاية الإسراع في إلقاء ما تريد من المعاني لها لعلها تستريح مما تصورته، فضاق عليها المقام، فأوجزت حتى بحذف النون من ( كان ) ولتفهم أن هذا المعنى منفي كونه على أبلغ وجوهه فقالت ) ولم أك (.
ولما كان المولود سر من يلده، وكان التعبير عنه بما هو من مادة الغلمة دالاً على غاية الكمال في الرجولية المقتضي لغاية القوة في أمر النكاح نفت أن يكون فيها شيء من ذلك فقالت :( بغياً ) أي ليكون دأبي الفجور، ولم يأت ( بغية ) لغلبة إيقاعه على النساء، فكان مثل حائض وعاقر في عدم الإلباس ولأن بغية، لا يقال إلا للمتلبسة به ) قال ) أي جبريل عليه السلام ) كذلك ( القول الذي قلت لك يكون.
ولما كان لسان الحال قلائلاً : كيف يكون بغير سبب ؟ أجاب بقوله :( قال ( ولما بنيت هذه السورة على الرحمة واللطف والإحسان بعباد الرحمن، عبر باسم الرب الذي صدرت به بخلاف سورة التوحيد آل عمران المصدرة بالاسم الأعظم فقال :( ربك هو ) أي المذكور وهو أيجاد الولد على هذه الهيئة ) عليّ ) أي وحدي لا يقدر عليه أحد غيري ) هين ) أي خصصناط به ليكون شرفاً به لك.
ولما كان ذلك أعظم الخوارق، نبه عليه بالنون في قوله، عطفاً على ما قدرته مما أفهمه السياق :( ولنجعله ( بما لنا من العظمة ) ءاية للناس ) أي علامة على كمال قدرتنا على البعث أدل من الآية في يحيى عليه السلام، وبه تمام القسمة الراعية في خلق البشر، فإنهه أوجده من أنثى بلا ذكر، وحواء من ذكر بلا أنثى وآدم عليه السلام لا من ذكر ولا أنثى، وبقية أولاده من ذكر وأنثى معاً ) ورحمة منا ( لمن آمن به في أول زمانه، ولأكثر الخلق بالإيمان والإنجاء من المحن في آخر زمانه، لا كآية صالح عليه السلام لأنها كانت آية استئصال لأهل الضلال ) وكان ( ذلك كله ) أمراً مقضياً ) أي محكوماً به مبتوتاً هو في غاية السهولة لا مانع منه أصلاً، ونبه على سرعة تسبيب الحمل عن هذا القول وإن كان التقدير بما أرشد إليه في غير هذه السورة : فنفخ في درعها فوصل النفخ إلى جوفها ) فحملته ( وعقب بالحمل قوله :( فانتبذت به ) أي فاعتزلت - وهو في بطنها - حالة ) مكاناً قصياً ) أي بعيداً من أهلها أو من المكان الشرقي، وأشار إلى قرب الولادة من الحمل بفاء التعقيب في قوله :( فأجاءها ) أي فأتى بها وألجأها ) المخاض ( وهو تحرك الولد في بطنها للولادة ) إلى جذع النخلة ( وهو ما برز منها من الأرض ولم يبلغ الأغصان، وكان تعريفها لأنه لم يكن في تلك البلاد الباردة غيرها، فكانت كالعلم لما فيها من العجب، لأن النخل من أقل الأشجار صبراً على البرد، ولعلها ألجئت إليها دون غيرها من الأشجار على كثرتها لمناسبة حال النخلة