صفحة رقم ١٠٨
ولما استدل على الساعة بما وهب لهؤلاء القوم من أهل الطاعة من التصرف في العناصر وغيرها إلى أن ذكر أنه خرق العادة في إيداع يحيى عليه الصلاة والسلام بين والدين لا يولد لمثلهما لأن أباه زكريا عليه السلام كان قد صار إلى حالة الكبر ويبس من الأعضاء عظيمة، وأمه كانت - مع وصولها إلى مثل تلك الحال - عاقراً في حال شبابها، تلاه بإبداع ابن خالته عيسى عليه السلام الذي هو علم للساعة على حال أغرب من حاله، فأخرجه من أنثى بلا ذكر، إشارة إلى قرب الوقت لضعف الأمر، كضعف الأنثى بالنسبة إلى الذكر، فقال :( والتي أحصنت فرجها ) أي حفظته من الحلال والحرام حفظاً يحق له أن يذكر ويتحدث به، لأنه غاية في العفة والصيانة، والتخلي عن الملاذ إلى الانقطاع إلى الله تعالى بالعبادة، مع ما جمعت إلى ذلك من الأمانة والاجتهاد في متانة الديانة ) فنفخنا ) أي بما لنا من العظمة التي لا يداني أةجها نقص، ولا يقرب من ساحتها حاجة ولا وهن ) فيها ) أي في فرجها - كما التحريم، نفخاً هو من جناب عظمتنا ؛ ودل على عظم خلوصه وصفائه بقوله :( من روحنا ) أي من روح يحق له أن يضاف إلينا لجلالته وطهارته، فكان من ذلك النفخ حبل وولد.
ولعله أضاف هنا النفخ إليها، لا إلى فرجها وحده، ليفيد أنه - مع خلق عيسى عليه السلام به وإفاضةة الحياة عليه حساً ومعنى - أحياها هي به معنى بأن قوى به معانيها القلبية حتى كانت صديقة متأهلة لزواجها بخير البشر في الجنة، وخصت هذه السورة بهذا لأن مقصودها الدلالة على البعث الذي هو إفاضة الأرواح على الأموات، قال الرازي : وعلى الجملة هذه عبارة عن إبداع عيسى عليه السلام من غير نطفة.
ولما قدمته من السر في إفاضة النفخ إلى حملتها، أتبع ذلك قوله :( وجعلناها وابنها ( اي بتلك الالعظمة العظمى ) ءاية ( جعلهما نفس الآية لكثرة ما كان فيهما من الأعاجيب.
ولما كان ما فيهما من ذلك ليس مقصوداً لذاته، بل لتقرير أمر عيسى عليه السلام، لم يقل : آيتين، أو لئلا يظن أن نفس العدد مقصود فينقص المعنى ) للعالمين ) أي في أن الله قادر على كل شيء لا سيما البعث الذي هو آيته، يتحدث بذلك بعدهما جيل بعد جيل، وعالم بعد عالم، وأمة بعد أمة، إلى قيام الساعة التي هو علمها، وحفظنا ابنها بعلمنا وحكمتنا قدرتنا وعظمتنا ممن كاده، ورفعناه إلى محل قدسنا، وختم به الأنبياء المذكورين هنا لأنه خاتم المجددين لهذا الدين المحمدي، وهو دليل الساعة، وكتابة أعظم كتاب بعد التوراة التي ابتدأ بصاحبها ذكر هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، حاشى القرآن الذي عجزت لبلاغته الإنس والجان.


الصفحة التالية
Icon