صفحة رقم ١٧٩
ولما خص اشرف العبادة، عم بقوله :( واعبدوا ) أي بأنواع العبادة ) ربكم ( المحسن إليكم بكل نعمة دنيوية ودينية.
ولما ذكر عموم العبادة، أتبعها ما قد يكون أعم منها مما صورته صورتها، وقد يكون بلا نية، فقال :( وافعلوا الخير ) أي كله من القرب كصلة الأرحام وعيادة المرضى ونحو ذلك، من معالي الأخلاق بنية وبغير نية، حتى يكون ذلك لكم عادة فيخف عليكم عمله لله، وهو قريب من ( ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا ) قال أبو حيان : بدأ بخاص ثم بأعم.
) لعلكم تفلحون ) أي ليكون حالكم حال من يرجو الفالح، وهو الفوز بالمطلوب ؛ قال ابن القطاع : أفلح الرجل : فاز بنعيم الآخرة، وفلح أيضاً لغة فيه.
وفي الجمع بين العباب والمحكم : الفلح والفلاح : الفوز والبقاء وفي التنزيل
٧٧ ( ) قد افلح المؤمنون ( ) ٧
[ المؤمنون : ١ ] أي نالوا البقاء الدائم، وفي الخبر : أفلح الرجل : ظفر.
ويقال لكل من أصاب خيراً : مفلح.
ولما كلن الجهاد أساس العبادة، وهو - مع كونه حقيقة في قتال الكفار - صالح لأن يعم كل أمر بمعروف ونهي عن منكر بالمال والنفس بالقول والفعل بالسيف وغيره، وكل اجتهاد في تهذيب النفس وإخلاص العمل، ختم به فقال :( وجاهدوا في الله ( اي الملك الأعظم الذي لا كفوء له في كل ما ينسب إليه سبحانه، لا يخرج منه شيء عنه كما لا يخرج شيء من المظروف عن الظرف ) حق جهاده ( باستفراغ الطاقة في إيقاع كل ما أمر به من الجهاد العدو والنفس على الوجه الذي أمر به من الحج والغزو وغيرهما جهاداً يليق بما أفهمته الإضافة إلى ضميره سبحانه من الإخلاص والقوة، فإنه يهلك جميع من يصدكم عن شيء منه.
ولما أمر سبحانه بهذه الأوامر، أتبعها بعض ما يجب به شكره، وهو كالتعليل لما قبله، فقال :( هو اجتباكم ) أي اختاركم لجعل الرسالة فيكم والرسول منكم وجعله أشرف الرسل، ودينه أكرم الأديان، وكتابه أعظم الكتب، وجعلكم - لكونكم أتباعه - خير الأمم ) وما جعل عليكم في الدين ( الذي اختاره لكم ) من خرج ) أي ضيق يكون به نوع عذر لمن توانى في الجهاد الأضغر والأكبر كما جعل على من كان قبلكم كما تقدم ذكره بعضه في البقرة وغيرها، أعني ) ملة (.
ولما كان أول مخاطب بهذا قريشاً، ثم مضر، وكانوا كلهم أولاد إبراهيم عليه الصلاة والسلام حقيقة، قال :( أبيكم إبراهيم ) أي الذي ترك عبادة الصنام ونهى عنها، ووحد الله وأمر بيوحيده، يا من تقيدوا بتقليد الآباء فالزما دينه لكونه اباً، ولكوني أمرت به، وهو أب لبعض المخاطبين من الأمة الحقيقية، ولبعضهم مجازاً بالاحترام والتعظيم، فيعم الخطاب الجميع، ولذلك حثهم على ملته بالتعليل بقوله :( هو ( أي