صفحة رقم ٥٠٥
من المال، ما لم يخطر لأحد منهم في بال، وقد صدق الله فيما قال كما تراه ومن أصدق من الله قيلاً.
ولما كان مجموع ما رزقهم في هذا الحرم من الأمن بأسبابه من الإسراع باصابة من آذى فيه بأنواع العقوبات، وجباية هذه الثمرات، في غاية الغرابة في تلك الأراضي اليابسة الشديدة الحر، المحفوفة من الناس بمن لا يدين ديناً، ولا يخشى عاقبة، ولا له ملك قاهر من الناس يرده، ولا نظام منسياسة العباد يمنعه، عبر عنه سبحانه مع مظهر العظمة بلدان فقال :( رزقاً من لدنا ) أي من أبطن ما عندنا وأغربه، لا صنع لأحد فيه كما تعلم ذلك أنت ومن أتبعك ومن فيه قابلية الهداية منهم، وكل ذلك إنما هو لأجلك بحلولك في هذا الحرم مضمراً في الأصلاب، ومظهراً في تلك أشعاب، توطئة انبيوتكن وتمهيداً لرسالتك، ومتى غبت عنهم غاب عنهم ذلك كله وسينظرون.
ولما كان هذا الذي ابدوه عذراً عن تخلفهم عن الهدى يظنونه من نفائس العلم، رده تعالى نافياً عمن لم يؤمن منهم جميع العلم الذي بنفيه ينتفي أن يكون هذا الفرد علماً، فقال في اسلوب التأكيد لذلك :( ولكن أكثرهم ) أي أهل مكة وغيرهم ممن لا هداية له ) لا يعلمون ) أي ليس لهم قابلية للعلم حتى يعلموا أنا نحن الفاعلون لذلك بترتيب اسبابه حتى تمكن ذلك وتم فلا قدرة لأحد على تغييره، وإنا قادرون على أن نمنعهم إذا تابعوا أمرنا ممن يريدهم، بل نسلطهم على كل من ناواهم، كقدرتنا على ما مكنا لهم وهو خارج عن القياس على ما يقتضيه عقول الناس، وإنا قادرون على سلب ذلك كله عنهم لإصرارهم على الكفر، ولا بد أن نذيقهم ذلك أجمع بعد هجرتك ليعلموا أنه إنما نالهم ذلك ببركتك، وللو علموا ذلك لشكروان ولكنهم جهلوا فكفرووا، ولذلك أنذروا ) ولتعلمن نبأه بعد حين (.
ولما أخبر تعالى أنه قادر على التأمين والإنجاء والتمكين مع الضعفة، أتبعه الإعلام بقدرته على الإخافة والإهلاك مع القوة، ترغيباً لهم إن آمنوا بإهلاك أضدادهم، وترهيباً إن أصروا من المعاملة بعكس مرادهم، فقال في مظهر العظمة عاطفاً على معنى الكلام :( وكم أهلكنا ( ويجوز أن يكون حالاً من ضمير نمكن أي فعلنا بهم ما ذكرنا من النعمة مع ضعفهم وعجزهم، والحال أنا كثيراً ما أهلكنا الأقوياء، وأشار إلى تأكيد التكثير مع تمييز المبهم بقوله :( من قرية (، وأشار إلى سبب الإهلاك بقوله :( بطرت معيشتها ( اي وقع منها البطر في زمان عيشها الرخي الواسع، فكان حالهم كحالكم في الأمن وإدرار الرزق، فلما بطروا معيشتهم أهلكناهم، ومعنى بطرهم لها أنهمشقوها بمجاوزة الحد في المرح، والأشر والفرح، إلى أن تعدوها فأفسدوها