صفحة رقم ٥٨٩
وقال : أيّ جار كنت لك ؟ قال : أفضل جار، قال : فقد بدت لنا إليك حاجة، فقال الراهب : الملك أجلّ من أن يكون له حاجة إلى مثلي، ولكن عندي بذل نفسي في الذي يأمر به الملك، قال كسرىك تحمل لي كتاباً إلى فلان صاحبي - وقال ابن الفرات : إلى الأصبهبذ - ولا تطلعن على ذلك أحداً.
وأعطاه ألف دينار، قال : نعم قال كسرى : فإنك تجتاز بإخواك النصارى فأخفه، قالك نعم، فلما ولى عنه الراهب قال له كسرى : أعلمت ما في الكتاب ؟ قال : لا، قال : فلا تحمله حتى تعلم ما فيه، فلما قرآه أدخله في جيبه ثم مضى، فلما صار في عسكر الروم نظر إلى الصلبان والقسيسن وضجيجهم بالتقديس والصلوات فاحترق قلبه لهم واشفق مما خاف أن يقع بهم وقال في نفسه : أنا شر الناس إن حملت بيدي حتف النصرانية وهلاك هؤلاء القوم، فصاح : أنا لم يحملني كسرى رسالة ولا معي له كتاب، فأخذوه فوجدوا الكتاب معه، وقد كان كسرى وجّه رسولاً قبل ذلك اختصر الطريق حتى مر بعسكر الروم كأنه رسول إلى كسرى من صاحبه الذي طابق ملك الروم ومعه كتاب فيه أن الملك قد كان أمرني بمقارنة ملك الروم وأن أختدعهوأخلي له الطريق فيأخذه الملك من أمامه وآخذه أنا من خلفه، وقد فعلت ذلك، فرأى الملك في إعلامي وقت خروجه إليه، فأخذ ملك الروم الرسول وقرأ الكتاب وقال : عجبت أن يكون هذا الفارسي أدهن غلى كسرى، ووافاه أبرويز فيمن أمكنه من جنده، فوجد ملك الروم قد ولى هارباً، فأتبعه يقتل وياسر من أدرك، وبلغ الأصبهبذ هزيمة الروم فأحب ان يخلي نفسه ويستر ذنبه لما فاته ما دبر، فخرج خلف الروم الهاربين فلم يسلم منهم إلا قليل.
وقال ابن الفرات : وخرج القس بالكتاب وأوصله غلى قيصر فقال : ما اراد غلا هلاكنا، وانهزم فاتبعه كسرى فنجا في شرذمة يسيرة، وافتتح كسرى أبرويز عدة من بلاد أعدائه، وبلغت خيلة القسطنطينية وإفريقية.
وقد ذكر ابن مسكوية ايضاً ما يمكن أن يكون المراد بالآية، وشرح أسباب ذلك فذكر ان هرمز بن أنوشروان لما بعث بهرام بن بهرام الملقب جوبين غلى ملك الترك وظفر به ثم بابنه، أساء السيرة فيه ولم يأذن في الرجوع، بل أمره بالتقدم فيما لم يره بهرام صواباً وخاف مخالفته، وقد كان هرمز حسن السيرة جداً أديباً أريباً، داهياً غلا عرقاً قد نزعه أخواله من الترك، فكان لذلك مقصياً للأشراف وأهل البيوتات والعلماء، لوم يكن له رأي إلا في تألف السفلة واستصلاحهم ففسدت عليه نيات الكبراء من جنده، فلما خافه بهرام جمع وجوه عسكره، وخرج عليهم في زي النساء وبيده مغزل وقطن ثم جلس في موضعه ووضع بين يدي كل واحد منهم مغزلاً وقطناً، فامتعضوا لذلك، فقال : إن كتاب الملك ورد عليّ بذلك، فلا بد من امتثال أمره إن كنتم طائعين، فأبوا وخلعوا هرمز، وأظهروا