صفحة رقم ١٧٢
أمكن.
فهي ظاهرة للعيون بين تلك الجنان، كأنها الكواكب الحسان، مع تقاربها بحيث يرى بعضها من بعض وكثرة المال بها والمفاخر والنفع والمعونة للمارة ؛ قال البغوي : كانت أربعة آلاف وسبعمائة قرية متثلة من سبأ إلى الشام.
ولما كانت مع هذا الوصف ربما كان فيها عسر على المسافر لعدم الموافقة في المقيل والمبيت، أزال هذا بقوله :( وقدرنا فيها السير ) أي جعلناه على مقادير هي في غاية الرفق بالمسافر في نزوله متى أراد من ليل أو نهار على ما جرت به عوائد السفار، فهي لذلك حقيقة بأن يقال لأهلها والنازلين بها على سبيل الامتنان :( سيروا ( والدليل على تقاربها جداً قوله :( فيها ( ودل على كثرتها وطول مسافتها وصلاحيتها للسير أيّ وقد أريد، مقدماً لما هو أدل على الأمن وأعدل للسير في البلاد الحارة بقوله :( ليالي ( وأشار إلى كثرة الظلال والرطوبة والاعتدال الذي يمكن معه السير في جميع النهار بقوله :( وأياماً ) أي في أي وقت شئتم، ودل على عظيم أمانها في كل وقت بالنسبة إلى كل ملم بقوله :( آمنين ) أي من خوف وتعب، أو ضيعة أو عطش أو سغب.
ولما انقضى الخبر عن هذه الأوصاف التي تستدعي غاية الشكر لما فيها من الألطاف، دل على بطرهم للنعمة بها بأنهم جعلوها سبباً للتضجر والملال بقوله :( فقالوا ( على وجه الدعاء :( ربنا ) أي أيها المربي لنا ) باعد ) أي أعظم البعد وشدده - على قراءة ابن كثير وأبي عمرو وهشام عن ابن عامر بتشديد العين وإسكان الدال، وهذا بمعنى قراءة الباقين غير يعقوب ) باعد ( المقتضية لمده وتطويله ) بين أسفارنا ) أي قرانا التي نسافر فيها، أي ليقل الناس فيكون ما يخص كل إنسان من هذه الجنان أضعاف ما يخصه الآن ونحمل الزاد ونسير على النجائب ونتعلق السلاح ونستجيد المراكب، وكان بعضهم كأن على الضد من غرض هؤلاء فاستكثر مسافة ما بين كل قريتين فقال كما قرأ الواردة على قانون الحكمة واشتهى أن تكون تلك القرى متواصلة ) وظلموا ( حيث عدوا النعمة نقمة، والإحسان إساءة ) أنفسهم ( تارة باستقلال الديار، وتارة باستقلال الثمار، فسبب ذلك تبديل ما هم فيه بحال هو في الوحشة بقدر ما كانوا فيه من الإنس وهو معنى ) فجعلناهم ) أي بما لنا من العظمة ) احاديث ) أي يتواصفها الناس جيلاً بعد جيل لما لها من الهول ) ومزقناهم ) أي تمزيقاً يناسب العظمة، فما كان لهم دأب إلا المطاوعة فمزقوا ) كل ممزق ) أي تمزيق كما يمزق الثوب، بحيث صاروا مثلاً مضورباً إلى هذا الزمان، يقال لمن شئت أمرهم : تفرقوا أيدي سبا.


الصفحة التالية
Icon