صفحة رقم ١٧٩
ولما كانوا بين أمرين : إما أن يسكتوا فيعلم كل سامع أن الحجة لزمتهم، وإما أن يقولوا بوقاحة ومكابرة : أنتم في الضلال ونحن على الهدى، وكان الضال لا يزال يقطع ما ينبغي وصله بوصل ما يجب قطعه، أمره أن يجيبهم على هذا التقدير بما هو أبلغ في الإنصاف من الأول بقوله :( قل لا تسلؤن ) أي من سائل ما ) عما أجرمنا ) أي قطعنا فيه ما ينبغي أن يوصل مما أوجبه لنا الضلال ) ولا نسئل ) أي أصلاً في وقت من الأوقات من سائل ما ) عما تعلمون ) أي مما بنيتموه على العلم الذي أورثكموه الهدى أي فاتركونا والناس غيركم كما أنا نحن تاركوكم، فمن وضح له شيء من الطريقين سالكه.
ولما كانوا إما أن يجيبوا إلى المتاركة فيحصلوا لها المصقود عن قريب، وإما أن يقولوا : لا نترككم، وكان هذا الاحتمال أرجح، أمره أن يجيبهم على تقديره بقوله :( قل يجمع بيننا ربنا ) أي في قضائه المرتب على قدره في الدنيا أو في الأخرة، قال القشيري : والشيوخ ينتظرون في الاجتماع زوائد ويستروحون إلى هذا الآية، وللاجتماع أمر كبير في الشريعة.
ولما كان إنصافهم منهم في غاية البعد عندهم، وكان ذلك في نفسه في غاية العظمة، أشار إليه بأداة البعد فقال :( ثم يفتح ) أي يحكم ) بيينا ( حكماً يسهل به الطريق ) بالحق ) أي الأمر الثابت الذي لا يقدر أحد منا ولا منكم على التخلف عنه، وهو العدل أو الفضل من غير ظلم ولا ميل.
ولما كان التقدير : فهو الجامع القدير، عطف عليه قوله :( وهو الفتاح ) أي البليغ الفتح لما انغلق، فلم يقدر أحد على فتحه ) العليم ) أي البالغ العمل بكل دقيق وجليل مما يمكن فيه الحكومات، فهو القدير على فصل جميع الخصومات.
ولما كانوا قد أنكروا البعث على ذلك الوجه الذي تقدم، ودل على قدرته عليه بما نصب من الأدلة التي شاهدوها من أفعاله بالبصر أو البصيرة إيجاداً وإعداماً، وأقام الحجة على صحة الدعوة وبطلان ما هم عليه، ثم تهددهم بالفصل يوم الجمع، وختم بصفة العلم المحيط المستلزم للقدرة الشاملة، وكانت القدرة لا تكون شاملة إلا عند الوحدانية، أمره بما يوجب لهم القطع بوحدانيته وشمول قدرته بقوله :( قل ) أي لهؤلاء المشركين.
ولما كانت آلهتهم تسهل رؤيتها، وكان كل ما هو كذلك سافل المقدار عن هذه الرتبة، وكانت آلهتهم بالخصوص أدنى الأشياء عن ذلك بكونها من أخس الجمادات، نبه على ذلك وعلى أنها نكرة لا تعرف بقلب ولا تدل عليها فطرة زيادة في تبكيتهم