صفحة رقم ٤٣٨
ولا قصد، ولا قرب ولا بعد، كلا بل هو الله الواحد القهار، وذلك كما قيل : المؤمن بقوة عقله يوجب استقلاله بعمله إلى أن يبدو ومنه كمال تمكنه من وقادة بصيرته، ثم إذا بدا له لائحة من سلطان المعارف تصير تلك الأنوار مقمرة، فإذا بدت أنوار التوحيد استهلكت تلك الجملة، فلما استبان الصبح أدرج ضوءه بأنواره أنوار تلك الكواكب.
ولما كان من المستبعد جداً أن يقسو قلب من ذكر الله، بينه الله وصوره في أعظم الذكر فإنه كان للذين آمنوا هدى وشفاء، وللذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وفي أبصارهم عمى، فقال مفخماً للمنزل بجعل الاسم الأعظم مبتدأ وبناء الكلام عليه :( الله ) أي الفعال لما يريد الذي له مجامع العظمة والإحاطة بصفات الكمال ) نزّل ) أي بالتدريج للتدريب وللجواب عن كل شبهة ) أحسن الحديث ( وأعظم الذكر، ولولا أنه هو الذي نزله لما كان الأحسن، ولقدر - ولو يوماً واحداً - على الإيتان بشيء من مثله، وأبدل من ( أحسن ) قوله :( كتاباً ) أي جامعاً لكل خير ) متشابهاً ) أي في البلاغة المعجزة والموعظة الحسنة، لا تفاوت فيه أصلاً في لفظ ولا معنى، مع كونه نزل مفرقاً في نيف وعشرين سنة، وأما كلام الناس فلا بد فيه من التفاوت وإن طال الزمان في التهذيب سواء اتحدج زمانه أو لا، والاختلاف في المختلف في الزمان أكثر، ولم يقل : متشبهاً، لئلا يظن أنه غير واضح الدلالة لا يمدح به.
ولما كان مفصلاً إلى سور وآيات وجمل، وصفه بالجمع في قوله :( مثاني ( جمع مثنى مفعل من التثنية بمعنى التكرير أي تثنى فيه القصص والمواهظ والأحكام والحكم، مختلفة البيان في وجوه من الحكم، متفاوتة الطرق في وضوح الدلالات، من غير اختلاف أصلاً في أصل المعنى، ولا يمل من تكراره، وترداد قراءته وتأمله واعتباره، مع أن جميع ما فيه أزواج من الشيء وضده : المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، والرحمة العامة والرحمة الخاصة، والجنة والنار، والنعيم والشقاء والضلال والهدى، والسراء والضراء، والبشارة والنذارة، فلا ترتب على شيء من ذلك جزاء صريحاً إلا ثني بإفهام ما لضده تلويحاً، فكان مذكوراً مرتين، ومرغباً فيه أو مرهباً منه كرتين، ويجوز أن يكون التقدير : متشابهة مثانيه، فيكون نصبه على التمييز، وفائدة التكرير أن النفوس أنفي شيء عن حديث الوعظ والنصيحة، فما لم يكرر عليها عوداً على ما بدء لم يرسخ عندها ولم يعمل عمله، ومن ثم كان النبي ( ﷺ ) يكرر قوله ثلاث مرات فأكثر.
ولما كان التكرار يمل، ذكر أن من خصائص هذا الكتاب أنه يطرب مع التكرار،