صفحة رقم ٥١٨
إدخال النار أولاً، وسره أنه ذكر فضله في كل من الشقين ) يرزقزن فيها ) أي من غير احتياج إلى تحول أصلاً إلى أسباب، ولعل ذلك من أسرار البناء للمفعول ) بغير حساب ( لخروج ما فيها بكثرته عن الحصر، فإن أدنى أهلها منزلة لو أضاف كل أهل الأرض لكفاهم من غير أن ينقص من ملكه شيء، وهذا من باب الفضل، وفضل الله لا حد له، ورحمته غلبت غضبه، وأما جزاء السيئة فمن باب العدل، فلذلك وقع الحساب فيها لئلا يقع الظلم، قال الأصبهاني : فإذا عارضنا عمومات الوعيد بعمومات الوعد ترجح الوعد لسبق الرحمة الغضب، فأنهدمت قواعد المعتزلة.
ولما بلغ النهاية في نصحهم، وختم بإعلامهم بأن الناس قسمان : هالك وناج، وكان حاصل إرادتهم لأن يكون على ما هم عليه الهلاك بالنار، قال مبكتاً لهم بسوء مكافأتهم منادياً لهم مكرراً للنداء لزيادة التنبيه والإيقاظ من الغفلة.
والتذكير بأنهم قومه واعضاده، وعاطفاً على ندائه السابق لأنه غير مفصل له ولا داخل في حكمه :( ويا قوم ما ) أي أيّ شيء من الحظوظ والمصالح ) لي ( في أني ) أدعوكم إلى النجاة ( والجنة بالإيمان شفقة عليكم ورحمة لكم واعترافاً بحقكم ) و ( مالكم من ذلك في كونكم ) تدعوني إلى النار ( والهلاك بالكفران، فالآية من الاحتباك : ذكر النجاة الملازمة للايمان أولاً دليلاً على حذف الجنة أولاً، ومراده هزهم وإثارة عزائمهم إلى الحياة منه بتذكيرهم أن ما يفعلونه معه ليش من شيم أهل المروءة يجازونه على إحسانه إليهم بالإساءة.
ولما أخبر بقلة إنصافهم إجمالاً، بينه بقوله :( تدعونني ) أي توقعون دعائي إلى معبوداتكم ) لأكفر ) أي لأجل أن أكفر ) بالله ) أي أستر ما يجب إظهاره بسبب الذي أناله لأن له كل شيء وله مجامع القهر والعز والعظمة والكبر ) وأشرك ) أي أوقع الشرك ) به ) أي أجعل له شريكاً.
ولما كان كل ما عداه سبحانه ليس له من ذاته، إلا العدم، أشار إلى حقارته بالتعبير بأداة ما لا يعقل فقال :( ما ليس لي به علم ) أي نوع من العلم بصلاحيته لشيء من الشركة، فهو دعاء إلى الكذب في شيء لا يحل الإقدام عليه إلا بالدليل القطعي الذي لا يحتمل نوعاً من الشرك، وإذا لم يكن به علم لم يكن له عزة ولا مغفرة، فلم يكن له وجود لأن الملك رزن الإلهية وهو أشهر الأشياء، فما ادعى له أشهر الأشياء، فكان بحيث لا يعرف بوجه من الوجوه، كان عدماً محضاً.
ولما بين أنهم دعوه إلى ما هو عدم فضلاً عن أن يكون له نفع أو ضر في جملة فعليه إشارة إلى بطلان دعوتهم وعدم ثبوتها، بين لهم أنه دعاهم إلا إلى ما له الكمال كله، ولا نفع ولا ضر إلا بيده، فقال مشيراً بالجملة الاسمية إلى ثبوت دعوته وقوتها :