صفحة رقم ٥٨٧
) فيؤوس ) أي عريق في اليأس، وهو انقطاع الرحاء والأمل والحزن العظيم والقطع بلزوم تلك الحالة بحيث صار قدوة في ذلك ) قنوط ) أي مقيم في دار انقطاع الأمل والخواطر الرديئة، فهو تأكيد للمعنى على أحسن وجه وأتمه، وهذا هو ما طبع عليه الجنس، فمن أراد الله به منهم خيراً عصمه، ومن أراد به شراً أجراه مع الطبع فكان كافراً، وهو أن ينقطع رجاؤء من الخير، والقنوط أن يظهر عليه آثار اليأس فيتضاءل وينكسر، وبدأ بصفى القلب لأنها عي المؤثرة فيها يظهر على الصورة من الانكسار.
ولما دل ذلك على عظيم جهله وغلبة أفكاره الرديئة على عقله، أتبعه تأكيداً لذلك ما يدل على أن حاله بعد هذا اليأس الذي قطع فيه ملزوم الشر وامتناع حصول الخير أنه لو عاودته النعمة بغتة من وجه لا يرجوه، وليس له دليل على ما دوامها وانصرافها لعاد إلى البطر والكبر والأشر، ونسي ما كان فيه من الشدة، فقال مسنداً إلى نفسه الخير بعد أن ذكر الشر، ولم يسنده إليه تعليماً للأدب معبراً بمظهر العظمة تنبيهاً على أن ذلك من جليل التدبير ) ولئن أذقناه ) أي الإنسان الذي غلبت عليه حالة الأنس بنفسه حنى أسفلته عن أبناء جنسه إلى رتبة الحيوانات العجم بل دونها.
ولما أخبر آخر الآية السالفة عن حاله عند الشر، قدم هنا ضده على صلته اهتماماً به خلاف ما في سورة هود عليه السلام فقال :( رحمة منا ) أي نعمة عظيمة دلت على إكرامه من جهة لا يرجوها، وهو من فائدة التعبير بأداة الشك، ودل بإثبات الجار على انفصالها عن الضر مع قرب زمانها منه ليكون قد جمع مباشرة الأحوال الثلاث : الانتقام والإكرام وما بينهما من الوسط الذي بين حالتي الرضا والسخط، ثم شرع بيان ذلك فقال :( من بعد ضراء ) أي محنة وشدة عظيمة ) مسته ( فطال بروكها عليه ؛ وأجاب القسم لتقدمه على الشرط بقوله :( ليقولن ( بمجرد ذوق تلك الرحمة على أنها ربما كانت بلاء عظيماً لكونها استدراجاً إلى الهلاك :( هذا ) أي الأمر العظيم ) لي ) أي مختص بي لما لي من الفضل، لا مشاركة لأحد معي فيه مع أنه ثابت لا يتغير انتقالاً من حالة اليأس إلى حالة الأمن والبطر والكبر والأشر على قرب الزمن من ذوق المحن وينسى أنها من فضل الله ليقيدها بشكرها، ويطردها بكفرها ) قائمة ) أي ثابتاً قيامها، فقطع الرجاء منها سواء عبر عن ذلك بلسان قاله أو بلسان حاله، لكونه يفعل أفعال الشاك فيها كما كان قطع الرجاء من الخير عند مباشرته للشر لكنه هنا قال على سبيل التقدير : والفرض، لدفع من يعظه محققاً لدوام نعمته :( ولئن رجعت ) أي على سبيل