صفحة رقم ٦٥١
ولما كان الحجاب الحسي يخفي ما وراءه عن العيان، استعير لمطلق الخفاء فقال :( أو من ) أي كلاماً بلا واسطة، لكنه مع السماع لعين كلام الله كائن صاحبه من ) وراء حجاب ) أي من وجه لا يرى فيه المتكلم مع السماع للكلام على وجه الجهر، قال القشيري : والمحجوب العبد لا الرب، والحجاب أن يخلق في محل الرؤية ضد الرؤية، وتعالى الله أن يكون من وراء حجاب لأن ذلك صفة الأجسام - انتهى.
والآية يمكن تنزيلها على الاحتباك بأن يكون ذكر الحجاب ثانياً دليلاً على نفيه أولاً، وذكر الوحي الدال على الخفاء أولاً دليلاً على الجهر ثانياً، والحجاب ثانياً دليلاً على الرؤية أولاً، وسره أن ترك التصريح والدلالة عليها بالحجاب أولى بسياق العظمة.
ولما كان الذي بلا واسطة مع كونه اخفى القسام ليس فيه صوت ولا ترتب في كلمات، عبر فيه بالمصدر وعبر بما يلقيه الملك بما يدل على التجدد فقال :( أو يرسل ( وهو عطف على المصدر بعد تقدير حله ) رسولاً ) أي من الملائكة.
ولما كان الوحي مسبباً عن الإرسال ومرتباً عليه قال :( فيوحي ) أي على سبيل التجديد والترتيب، وقرأ نافع برفع يرسل ويوحي بتقدير : أو هو يرسل.
ولما كان ربما ظن أن للواسطة فعلاً يخرج عن فعله، رد ذلك بقوله :( بإذنه ) أي بإقدار وتمكينه، فذلك المبلغ إنما هو آلة.
ولما كان رسوله لا يخرج عما وحده له بوجه قال :( ما يشاء ) أي لا يتعدى مراده وإقداره أصلاً فهم المكلم في الحقيقة وقد بان أنها ثلاثة أقسام : أولها فيه قسمان، خص الأول بقسميه بالتصريح باسم الوحي لأنه كما مر أخفاها وهو أيضاً يقع دفعه، والوحي يدور معناه على الخفاء والسرعة.
ولما كانت الأقسام دالة على العظمة الباهروة، وكانت للروح البدني لأن روح الوحي يكسب الروح البدني حياة العلم كما أفاد الروح البدن حياة بالإرادة والحس، كانت النتيجة مؤكدة لتضمن طعنهم في الرسول والقرآن والتوحيد طعنهم في مضمون الجملة :( إنه ) أي الذي له هذا التصرف العظيم في هذا الوحي الكريم ) عليّ ) أي بالغ العلو حداً مما لا يليق به من الأوصاف وبما يكون للخلق عن جنابه من السفول بما عليهم من الحجب فلا يلبس شيء مما يعبر به تقريباً للعقول فيحمل على ما يوهم نقصاً، فإن المجازات في لسان العرب شهيرة ) حكيم ( يتقن ما يفعله إتقاناً ر تحيط العقول بإدراكه فيسكن روح العلم الذي هو من ألطف أسراره في روح البدن المدبر له فيكون سراً في سر كمات كان براً بعد بر، ويجعل ذلك تارة بواسطة وتارة بغير واسطة على حسب ما يقتضيه الحال، ويعبر عن كل معنى بما يقتضيه حاله في ذلك