صفحة رقم ٧٨
ولما أكد سبحانه وجوب الصدع بكل أمره وإن عظمت وزادت حرقته من غير ركون إلى مؤالف موافق، ولا اهتمام بمخالف مشاقق، اعتماداً على تدبيره، وعظيم أمره في تقديره، ذكرهم بدليل شهودي هو أعظم وقائعهم في حروبهم، وأشد ما دهمتهم من كروبهم، فقال معلماً أن المقصود بالذات بما مضى من الأوامر الأمة - وإنما وجه الأمر إلى الإمام ليكون أدعى لهم إلى الامتثال فإن الأمر للنبي ( ﷺ ) تكويني بمنزلة ما يقول الله تعالى له ) كن ( فحقيقة الإرادة لا الأمر، والأمر للذين آمنوا تكفيلي.
وقد يراد منهم ما يؤمرون به وقد لا يراد، وللناس احتجاجي أي تقام به عليهم الحجة، ومن المحقق أن بعضهم يراد منه خلاف المأمور به :( يا أيها الذين آمنوا ) أي أقروا بالإيمان، عبر به ليعم المنافقين ) اذكروا ( ورغبهم في الشكر بذكر الإحسان والتصريح بالاسم الأعظم فقال :( نعمة الله ( عبر بها لأنها المقصودة بالذات والمراد إنعام الملك الأعلى الذي لا كفوء له ) عليكم ) أي لتشكروه عليها بالنفوذ لأمره غير ملتفتين إلى خلاف أحد كائناً من كان، فإن الله كافيكم كل ما تخافون ثم ذكر لهم وقت تلك النعمة زيادة في تصويرها ليذكر لهم ما كان فيه منها فقال :( إذ ) أي حين ) جاءتكم ) أي في غزوة الخندق حين اجتمعت عليكم الأحزاب وكان النبي ( ﷺ ) ضربه حين سمع بهم بمشورة سلمان الفارسي رضي الله عنه على جانبي سلع من شماليه، وخطه وقطع لكل عشرة رجال أربعين ذراعاً، وكانوا ثلاثة آلاف، فكان الخندق اثني عشر الف ذراع ) جنود ( وهم الأحزاب من قريش ومن انضم إليه من الأحابيش في أربعة آلاف يقودهم أبو سفيان ابن حرب، ومن انضم من قبائل العرب من بني سليم يقودهم أبو الأعور، ومن بني عامر يقودهم عامر بن الطفيل، ومن غطفان يقودهم عيينة بن حصن، ومن بني أسد يقودهم طليحة بن خويلد، ومن أسباط بني إسرائيل من اليهود ومن بني النضير ورؤساهم حيي بن أخطب وابنا أبي الحقيق، وهم الذين جمعوا الأحزاب بسبب إجلاء النبي ( ﷺ ) لبني النضير من المدينة الشريفة، وأفسدوا أيضاً بني قريظة، وكانوا بالمدينة الشريفة وسيدهم كعب بن أسد، فكان الجميع اثني عشر الفاً، وكانوا واثقين في زعمهم بأنهم لا يرجعون وقد بقي للإسلام باقية، ولا يكون لأحد من أهله منهم واقية.
ولما كان مجيء الجنود مرهباً، سبب عنه عوده إلى مظهر العظمة فقال :( فأرسلنا ) أي تسبب عن ذلك أنا لما رأينا عجزكم عن مقابلتهم ومقاومتهم في مقاتلتهم ألهمناكم عمل الخندق ليمنعهم من سهولة الوصول إليكم، ثم لما طال مقامهم أرسلنا بما لنا من العظمة ) عليهم ) أي خاصة ) ريحا ( وهي ربح الصبا، فأطفأت نيرانهم.
وأكفأت قدروهم وجفانهم، وسفت التراب في وجوههم، ورمتهم بالحجارة وهدت


الصفحة التالية
Icon