صفحة رقم ٣١٩
النوم والصعق من آيات الله على لقاء الله وهي مقدمات لذلك، ولكل حقيقة حق يتقدمها كأشراط الساعة، والإسراء وإن لم يكن موتاً ولا صعقاً ولا نوماً على أظهر الوجوه فقد خرج عن مشاهدات الدنيا إلى مشاهدات الأفق الأعلى فلا تنكر الرؤية هنالك، فالإسراء حالة غير حالة الدنيا، بل هي من أحوال الآخرة وعالم الغيب - والله الهادي.
ولما تقرر ذلك غاية التقرر، وكان موضع الإنكار عليهم، قال مسبباً عن ذلك :( أفتمارونه ) أي تستخرجون منه بجدالكم له فيما أخبركم به شكاً فيه ولا شك فيه، وعبر بالمفاعلة في قراءة الجماعة عن حمزة والكسائي ويعقوب إشارة غلى اجتهادهم في تشكيكه، من مري الشيء : استخرجه، ومري الناقة : مسح شرعها، فأمرى : در لبنها، والمرية بالكسر والضمر : الشك والجدل ) على ما يرى ( على صفة مطابقة القلب والبصر، وذلك مما لم تجر العادة بدخول الشك فيه وال قبوله للجدال، وزاد الأمر وضوحاً بتصوير الحال الماضية بالتعبير بالمضارع إشارة إلى أنه كما لم يهم لم يلبس الأمر عليه، بل كأنه الآن ينظر.
ولما كان الشيء أقوى ما يكون إذا حسر البصر، فإذا وافقه كون القلب في غاية الحضور كان أمكن، فإذا تكرر انقطعت الأطماع عن التعلق بالمجادلة منه، قال مؤكداً لأجل إنكارهم :( ولقد رآه ) أي الله تعالى أو جبرئيل عليه السلام على صورته الحقيقية، روى مسلم في الإيمان عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال ) ما كذب الفؤاد ما رأى ( ) ولقد رآه نزلة أخرى (، قال :( رآه بفؤاده مرتين ) وجعل ابن مرجان الإسراء مرتين : الأولى بالفؤاد مقدمة وهذه بالعين.
ولما كان ذلك لا يتأتي إلا بتنزل يقطع مسافات البعد التي هي الحجب ليصير به بحيث يراه البشر، عبر بقوله :( نزلة ( وانتصب على الظرفية لأن الفعلة بمعنى المرة الأعلى، وعين الوقت بتعين المكان فقال :( عند سدرة المنتهى ) أي الشجرة التي هي كالسدر وينتهي إليها علم الخلائق وينتهي إليها ما يعرج من تحت وما ينزل من فوق، فيتلقى هنالك، وذلك - والله أعلم - ليلة الإسراء في السنة الثالثة عشرة من النبوة قبل الهجرة بقليل بعد الترقي في معراج الكمالات من السنين على عدد السماوات وما بينهما من المسافات، فانتهى إلى منتهى يسمع فيه صريف الأقلام، وعظمها بقوله :( عندها ) أي السدرة ) جنة المأوى ( الذي لا مأوى في الحقيقة غيره لأنه لا يوازي في عظمه،