صفحة رقم ٢٧٩
أي في وقت من الأوقات مشيئة من المشيئات لهذا وغيره على سبيل الاختراع والاستقلال ) إلا ( وقت ) أن شاء الله ) أي الملك الأعلى الذي له الأمر كله، ولاأمر لأحد معه، فيوجد المعاني في أنفسكم على حسب ما يريد ويقدر على ما يشاء من آثارها، وقد صح بهذا ما قال الأشعرية وسائر أهل السنة من أن للعبد مشيئة تسمى كسباً لا تؤثر إلا بمشيئة الله تعالى وتحريكها لقدرة العبد، وانتفى مذهب القدرية الذين يقولون : إنا نحن نخلق أفعالنا، ومذهب الجبرية القائلين : لا فعل لنا أصلا، ومثَّل الملوي ذلك بمن يريد قطع بطيخة فحدد سكيناً وهيأها وأوجد فيها أسباب القطع وأزال عنها موانعه ثم وضعها على البطيخة فهي لا تقطع دون أن يتحامل عليها التحامل المعروف لذلك، ولو وضع عليها مالم يصلح للقطع كحطبة مثلاً لم تقطع ولو تحامل، فالعب كالسكين خلقه الله وهيأه بما أعطاه من القدرة للفعل، فمن قال : أنا أخلق فعلي مستقلاً به، فهو كمن قال : السكين تقطع بمجرد وضعها من غير تحامل، ومن قال : الفاعل هو الله، من غير نظر إلى العبد أصلاً كان كمن قال : هو يقطع البطيخة بتحامل يده أو قصبة ملساء من غير سكين، والذي يقول : إنه باشر بقدرته المهيأة للفعل بخلق الله لها وتحريكها في ذلك الفعل كان كمن قال : إن السكين قطعت بالتحامل عليها، بهذا أجرى سبحانه عادته في الناس، ولو شاء غير ذلك فعل، ولا يخفى أن هذا هو الحق الذي لا مرية فيه، ثم علل ذلك بإحاطته بمشيئتهم قائلاً :( إن الله ) أي المحط علماً وقدرة ) كان ) أي أزلاً وأبداً ) عليماً حكيماً ) أي بالغ العلم والحكمة، فهو يمنع منعاً محكماً من أن يشاء غيره ما لم يأذن فيه، فمن علم في جبلته خيراً أعانه عليه، ومن علم منه الشر ساقة إليه وحمله عليه، وهو معنى ) يدخل من يشاء ) أي من علمه أهلاً للسعادة، ليس بظالم ) في رحمته ( بحكمته فييسير له اتخاذ السبيل الموصل إليه بأن يوفقه للعدل، ويعد له ثواباً جسيماً.
ولما بشر أهل العدل بالفعل المضارع المؤذن بالاستمرار، ولم يجعله ماضياً لئلا يتعنت متعنت ممن هو متلبس بالضلال فيقول : أنا لا أصلح لأنه ما أدخلني، عطف عليه ما لأضدادهم في جملة فعلية بناها على الماضي إعلاماً بأن عذابهم موجود قد فرغ منه فقال :( والظالمين ) أي وأهان العريقين في وصف المشي على غير سنن مرضى كالماشي في الظلام فهو يدخلهم في نقمته وقد ) أعد لهم ) أي إعداداً أمضاه بعظمته، فلا يزاد فيه ولا ينقص أبداً ) عذاباً أليماً ( فالآية من الاحتاك : ذكر الإدخال والرحمة أولاً دلالة على الضد ثانياً، والعذاب ثانياً دلالة على الثواب أولاً، وسر ذلك أن ما ذكره أولى بترغيب أهل العدل فيه وإن ساءت حالهم في الدنيا، وبترهيب أهل الظلم منه وإن


الصفحة التالية
Icon