صفحة رقم ٣٧
على سبيل الاستقصاء، وأما الحساب اليسير فهو عرض الأعمال فقط من غير جزاء على قبيحها فهو دلالة تضمن، وإنما شدد على هذه القرية لأن إعراضها كان كذلك بما نبه عليه تسميته عتواً ) وعذبناها ) أي في الدنيا جزاء على ما أحصيناه من ذنوبها ) عذاباً نكراً ) أي شديد النكارة لأن العقل يحير في أمره لأنه لم ير مثله ولا قريباً منه ليعتبره به، وأزال ذكر الكثرة شبهة أن يكون الإهلاك وقع اتفاقاً في وقت من الأوقات ) فذاقت ( بسبب ذلك بعد ما كان لها من الكثرة والقوة ) أمرها ) أي في العتو وجميع ما كانت تأتمر فيه، مثله بالمرعى الوخيم الذي يمرض ويهلك.
ولما كان كل مقهور إنما يسلي نفسه بانتظار الرج ورجاء العاقبة، أيأس من ذلك مذكراً للفعل إشارة إلى الشدة بقوله :( وكان عاقبة ) أي آخر ومنتهى وعقيب ) أمرها ) أي في جميع عملها الذي كانت فيه ) خسراً ) أي نفس الخسر في الدارين، فكلما امتد الأمر وجدوه أمامهم فإن من زرع الشوك كما قال القشيري لا يجني الورد، ومن أضاع حق الله لا يطاع في حظ نفسه، ومن احترق بمخالفة أمر الله تعالى فليصبر على مقاساة عقوبة الله تعالى، ثم فسر الخسر أو استأنف الجواب لمن يقول : هل لها غير هذا في هذه الدار، بقوله :( أعد الله ) أي الملك الأعظم ) لهم ( بعد الموت وبعد البعث ) عذاباً شديداً (.
ولما تمت الأحكام ودلائلها، وأحكمت الآيات وفواصلها، والتهديدات وغوائلها، كانت فذلكتها سياقها وموعظتها ما تسبب عن ذلك من قوله تعالى تنبيهاً على ما يحيي الحياة الطيبة وينجي في الدارين :( فاتقوا الله ) أي لاذي له الأمر كله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
ولما كان في تخليص المواعظ من الأحكام واستثمارها من فواصل هذا الكلام أمر عظيم هو من الرقة بمكان لا بصره إلا ذوو الأفهام إلى ذوو الأفهام قال تعالى :( يا أولي الألباب ) أي العقول الصافية النافذة من الظواهر إلى البواطن ) الذين آمنوا ) أي خلصوا من دائرة الشرك وأوجدوا الإيمان حقيقة، ثم علل هذا الأمر بما أزال العذر فقال تنبيهاص على ما من علينا به من المراسلة فإن مراسلات فإن مراسلات الأكابر فخر فكيف بمراسلات الملوك فكيف بمراسلة ملك الملوك حثاً بذلك على شكره :( قد أنزل الله ) أي الذي له صفات الكمال ) إليكم ( خاصة ) ذكراً ) أي كاملاً مذكوراً فيه غاية الشرف لكل من يقبله بل تشرفت الأرض كلها بنزوله ورفع عنها العذاب وعمها النور والصواب لأن فيه تبيان كل شيء، فمن استضاء بنوره اهتدى، ومن لجأ إلى برد أفنائه وصل من داء الجهل إلى شفائه.