وليس ببعيد أن يُقال : إنّ التفسير بالرأي ظهر في عهد النبي - ﷺ -، تدل لذلك الآثار التي اجتهد فيها الصحابة بحضرة رسول الله - ﷺ -، فهذا عمرو بن العاص - رضي الله عنه - تيمم في غزوة ذات السُّلاسل – ويجوز : السَّلاسل-، ولما سألن النبي - ﷺ - عن سبب ذلك قال له :" وذكرتُ قول الله: ﴿ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ﴾، فتيمّمْتُ، ثم صليت. فضحك نبينا - ﷺ - ولم يقل شيئاً. ففي هذا الأثر ترى أن عَمْراً اجتهد، وأعمل رأيه في فهم هذه الآية، وطبّقها على نفسه، فصلى بالقوم بعد التيمم، وهو جنب، ولم ينكر عليه الرسول - ﷺ - هذا الاجتهاد والرأي.
ومن الأدلة على وجود الرأي المحمود كذلك قول النبي - ﷺ - لابن عباس :« اللهم فقِّهه في الدين، وعلِّمه التأويل»، ولو كان المراد المسموعَ والمأثور من تفسير النبي - ﷺ - لما كان لابن عباس مَزِيّةٌ بهذا الدعاء؛ لأنه يشاركه فيه غيرُه، وهذا يدلّ على أن التأويل المراد: الفهم في القرآن كما أفاد ابن عاشور في التحرير والتنوير، وهذا الفهم إنما هو رأيٌ لصاحبه.
ولما سئل الصديق الأكبر أبو بكر - رضي الله عنه - عن آية الكلالة قال :" أقول فيها برأيي؛ فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأً فمني ومن الشيطان".
فما هي شروط الرأي المحمود في التفسير ؟
بعض المتأخرين اجتهد في بيان جملة العلوم التي يحتاجها من يفسر برأيه حتى يخرج عن كونه رأياً مذموماً. فالراغب الأصفهاني جعلها عشرة علوم، وهي:
علم اللغة، والاشتقاق، والنحو، والقراءات، والسّيَر، والحديث، وأصول الفقه، وعلم الأحكام، وعلم الكلام، وعلم الموهبة.
فمن جمع هذه العلوم فسّر القرآن برأيه فيما ليس فيه نصٌّ.
فأين يكون التفسير بالرأي ؟
سبق الكلام عن نوعي التفسير، فالأول : جهته النقل، والثاني جهته الاستدلال.


الصفحة التالية
Icon