٧- التواضع وهو في قمة المجد والتمكين: كان سليمان عليه السلام دائم التواضع حتى قيل إنه كان يمشي منكسر الرأس خشوعًا لله، وأثناء استعراضه لجنوده من الجن والإنس والطير، مر على وادي النمل، وفي نظرة التواضع إلى الأرض؛ أبصر نملة، فأشخص النظر صوبها، وأصاخ السمع إليها، وبما علم من منطق الطير والحيوان حاول أن يتفهم أمرها، لقد علم أنها تتخوف من بطش أقدام الجنود في ركب سليمان، لقد سمعها وفهم قولها: ﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ [النمل: ١٨]. نعم إنها كائن صغير في مملكة ضخمة عظيمة، تسعى كأخواتها للرزق، وتنصح لهم أن يفسحوا الطريق أمام ركب الملك العادل، حتى لا تقع مظلمة غير مقصودة من أحد منهم، قال القرطبي رحمه الله: (التفاتة مؤمن، أي من عدل سليمان وفضله وفضل جنده لا يحطمون نملة فما فوقها إلا بألا يشعروا) (١).
إن هذه النملة لم تكن إلا واحدة من رعايا سليمان في مملكته التي ضمت إلى جانب الإنس والجن أنواعًا وألوانًا من الحيوان والطير والهوام.
لقد سمع كلامها وتفهم شكواها، فتبسم من قولها، فرق قلبه الكبير رفقًا لجرمها الصغير، فرحمها وأخواتها، وشكر ربه إذ علمه منطق هذه المخلوقات حتى يتمكن من إنصافها وإيصال العدل إليها، وسُرّ بأن عدالته وجنوده قد عرفها كل مخلوق، حتى مثل هذه النملة التي اعتذرت عنهم مقدمًا بأنهم إن أصابوا نملة بأقدامهم، فإن ذلك من غير قصد منهم ولا شعور(٢).
﴿فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ﴾ [النمل: ١٩].
لقد أدرك سليمان عليه السلام أنه -في جنب الله- في حاجة إلى الرحمة والعطف واللطف أشد من حاجة هذه النملة إلى ذلك منه، ولهذا قال: ﴿وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾ [النمل: ١٩].

(١) تفسير القرطبي (١٣/١٧٠).
(٢) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (٢/٥٨٩).


الصفحة التالية
Icon