٢- كان صاحب خبرة ودراية بمختلف العلوم المتاحة في عصره، يدل على ذلك حسن اختياره للخامات، ومعرفته بخواصها، وإجلادته لاستعمالها والاستفادة منها، فقد استعمل المعادن على أحسن ما خلقت له، ووظف الإمكانات على خير ما أتيح له: ﴿آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا﴾ [الكهف: ٩٦] أمرهم بأن يأتوه بقطع الحديد الضخمة، فآتوه إياها، فأخذ يبني شيئًا فشيئًا حتى جعل ما بين جانبي الجبلين من البنيان مساويًا لهما في العلو، ثم قال للعمال: (انخفوا بالكير في القطع الحديدية الموضوعة بين الصدفين)(١). فلما تم ذلك وصارت النار عظيمة قال للذين يتولون أمر النحاس من الإذابة وغيرها: آتوني نحاسًا مذابًا أفرغه عليه فيصير مضاعف القوة والصلابة، وهي طريقة استخدمت حديثًا في تقوية الحديد، فوجد أن إضافة نسبة من النحاس إليه تضاعف مقاومته وصلابته(٢).
٣- كان واقعيًا في قياسه للأمور وتدبيره لها، فقد قدر حجم الخطر، وقدر ما يحتاجه من علاج، فلم يجعل السور من الحجارة، فضلاً عن الطين واللبن، حتى لا يعود منهارًا لأدنى عارض، أو في أول هجوم، ولهذا باءت محاولات القوم المفسدين بالفشل عندما حاولوا التغلب على ما قهرهم به ذو القرنين: ﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا﴾ [الكهف: ٩٧]، أي لم يتمكنوا من اعتلائه لارتفاعه وملاسته، وما استطاعوا أن يثقبوه لصلابته وثخانته(٣).
لقد كان ذو القرنين على علم بأخبار الغيب التي جاءت به الشرائع، ومع ذلك لم يتخذ من الأقدار تكأة لتبرير القعود والهوان، فقد بنى السد وبذل فيه الجهد، مع علمه بأن له أجلاً سوف ينهدم فيه لا يعلمه إلا الله.

(١) روح المعاني (١٦/٤٠). (٣) انظر: في ظلال القرآن (٤/٢٢٩٣).
(٣) فتح القدير (٣/٣١٣).


الصفحة التالية
Icon