فهذا الرجل سمع الدعوة واستجاب لها بعد ما رأى فيها دلائل الحق والمنطق ما يتحدث عنه في مقالته لقومه وحينما استشعر حقيقة الإيمان تحركت هذه الحقيقة في ضميره فلم يطق عليها سكوتًا، ولم يقبع في داره بعقيدته، وهو يرى الضلال من حوله والجحود والفجور، ولكنّه سعى بالحق الذي استقر في ضميره، وتحرك في شعوره، سعى به إلى قومه، وهم يكذبون ويجحدون ويتوعدون ويتهدّدون.
وجاء من أقصى المدينة يسعى ليقوم بواجبه في دعوة قومه إلى الحق، وفي كفّهم عن البغي وفي مقاومة اعتدائهم الأثيم الذي يوشكون أن يصبّوه على المرسلين.
وظاهر أن الرجل لم يكن ذا جاه ولا سلطان، ولم يكن في عزة من قومه أو منعة من عشيرته، ولكنّها العقيدة الحيّة في ضميره، تدفعه وتجئ به من أقصى المدينة إلى أقصاها.(١)
ولقد أجاد الإمام الفخر الرازي(٢) في الإشارة إلى بعض المعاني العظيمة التي تشير إلى تمكن دعوة التوحيد في قلب الرجل المؤمن الصادق المخلص.. وأنقل إليك بعض هذه المعاني:
١- إن ارتباط الرجل المؤمن مع ما سبق من آيات القصّة له وجهان:
أحدهما: أنه بيان لكونهم أتوا بالبلاغ المبين، حيث آمن بهم الرجل الساعي، وعلى هذا ففي قوله: ﴿مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ﴾ بلاغة باهرة، فهو يدل على أن إنذار الرسل قد بلغ إلى أقصى المدينة.
الثاني: أن ذكر قصة الرجل المؤمن بالمرسلين تسلية لقلوب أصحاب الرسول - ﷺ - وتثبيتهم على الدعوة، كما كان ذكر الرسل الثلاثة تسلية لقلب الرسول - ﷺ -.
٢- في تنكير ﴿رَجُلٌ﴾ فائدتان وحكمتان:
الأولى: أن يكون تعظيمًا لشأنه، أي رجل كامل في الرجوليّة.
(٢) هو العالم الأصولي المفسر فخر الدين بن عمر بن الحُسين الرازي، اشتهر بعلم الأصول والنحو والشعر والوعظ، وكان يوعظ باللسانين العربي والعجمي وكان كثير البكاء، توفى عام ٦٠٦هـ انظر: الوفيات (٤/ ٢٤٨).