فإذا كان خلق الإنسان وتسخير الكون له، وإيجاد العقل والقلب والإرادة فيه، وإرسال الرسل وإنزال الكتب وخلق الجنة والنار، وقبيل ذلك وبعده ما تقتضيه صفات الباري -جل وعلا- من كونه في ذاته وأفعاله سبحانه وتعالى حكيمًا عليمًا، خلق كل شيء فقدره تقديرًا، ولم يخلق شيئًا عبثًا ولم يوجد شيئًا لغير حكمة، وإذا كان القرآن المجيد، وما فيه من أخبار وأوامر ووعد ووعيد جاء لأجل هذه المهمة العظيمة، ألا وهي تعبيد الخلق كلهم لله سبحانه فكيف يصح حينئذ أن يتصور أن العبادة هي النية النقية وحسب، أو أنها الشعائر التعبدية فقط، أو أنها لبعض نشاطات الإنسان دون بعض، أو لبعض أفعاله وأحواله دون بعض.
بل إن دائرة العبادة التي خلق الله لها الإنسان، وجعلها غايته في الحياة، ومهمته في الأرض، دائرة رحبة واسعة، إنها تشمل شئون الإنسان كلها، وتستوعب حياته جميعًا، وتستغرق كل مناشطه وأعماله(١)، وبهذا المعنى الشامل، فهم السلف الصالح عبادة الإنسان فردًا كان أو جماعة، وقد لخص هذا المعنى الشامل للعبادة وحدد ماهيتها شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- حين قال: (العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه: من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة والزكاة والصيام والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتامى والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة، وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف لعذابه، وأمثال ذلك هي من العبادة لله..) (٢).
(٢) مجموع الفتاوى (١٠/١٥٠).