وبهذا الفهم العميق لمفهوم العبادة حققت تلك الأمة في سالف عهدها ما حققته من منجزات في كل اتجاه، فحين كانت تمارس الأمة إيمانها الحق، وعبادتها الحقة، وكانت الأخلاق في حسها جزءًا من العبادة المفروضة على المسلم، حدثت إنجازات هائلة لم تتكرر في التاريخ، ففي أقل من نصف قرن امتد الفتح الإسلامي من الهند شرقًا إلى المحيط غربًا، وهي سرعة مذهلة لا مثيل لها في التاريخ كله، ولم يكن الكسب هو الأرض
التي فتحت، وإنما كان الكسب الأعظم هو القلوب التي اهتدت بنور الله فدخلت في دين الله أفواجًا(١).
وما كانت تلك الأمة لتقدر على دك حصون الشرك، واقتلاعها بمثل هذه السهولة، وبمثل هذه السرعة، وما كانت لتقدر على إبراز تلك المثل الرفيعة التي أبرزتها في عالم الواقع، من إقامة العدل الرباني في الأرض، ونظافة التعامل، والوفاء بالمواثيق، وشجاعة النفس، والبطولة الفذة في ميدان الحرب والسلم سواء، وما كانت لتقدر على إنشاء حركتها العلمية الضخمة، ولا حركتها الحضارية السامقة.. ما كانت لتقدر على ذلك كله، ولا على شيء منه، لولا هذا الإحساس العميق لديها بأنها في ذلك كله تقوم بالعبادة التي خلق الله الإنسان من أجلها وتقوم به بذات الحس الذي تؤدي به الصلاة(٢).
هكذا كانت العبادة تصورًا وفهمًا وعملاً عند الأجيال المسلمة الأولى(٣)، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها؛ تصحيح المفاهيم أولاً، ثم إقامة بناء جديد على المفاهيم الصحيحة للإسلام(٤).
إن قضية العبادة ليست قضية شعائر، وإنما هي قضية دينونة واتباع، وإنها لذلك استحقت كل هذه الرسل والرسالات، وكل هذا الاهتمام(٥).
(٢) انظر: مفاهيم ينبغي أن تصحح، ص١٩٢.
(٣) انظر: التمكين للأمة الإسلامية، ص ٥٩.
(٤) انظر: مفاهيم ينبغي أن تصحح، ص ٢٥٠-٢٥١.
(٥) انظر: في ظلال القرآن (٤/١٩٤٣).