وذلك أن كل أمر من أمور الهجرة كان مدروسا دراسة وافية بحيث لم تُترك ثغرة واحدة للعدو ينفذ منها، ولم يُترك شأن من شئونها للمصادفة أو للحظوظ العمياء، فلقد تمت الرحلة المثيرة التي لم يعرف أخطر منها في التاريخ في سبيل الحق بطريقة سرية، لم يعلم بها أحد، وفي تكتم شديد وحرص بالغ، حتى لقد قال الرسول - ﷺ - لأبي بكر عندما أراد أن يفضي إليه بنبأ الهجرة: «أخرج عني من عندك؟» ولا شك أن السرية في رسم الخطط هي ضمان النجاح وعدته، ولقد بلغ الاحتياط مداه، باتخاذ طرق غير مألوفة للقوم، والاستعانة على ذلك بخبير يعرف مسالك البادية ومسارب الصحراء.. ولو كان ذلك الخبير مشركا ما دام يملك خبرات جيدة ومحل ثقة في تنفيذ المهمة، واختياره - ﷺ - لشخصيات عاقلة رزينة تتوقد ذكاء لتقوم بالمعاونة في شئون الهجرة، ووضع - ﷺ - كل فرد في عمله المناسب، فقام علي - رضي الله عنه - بدوره المنوط به ونام في فراش النبي - ﷺ -، وحققت تلك الفكرة أهدافها وخرج رسول الله - ﷺ - والمشركون معلقة أبصارهم بمضجع الرسول - ﷺ -، وأحكم - ﷺ - أموره وأوصى عليا - رضي الله عنه - برد الودائع إلى أهلها، وكان عبد الله بن أبي بكر يقوم بدور جمع المعلومات وكشف تحركات العدو، وأسماء ذات النطاقين تحمل التموين من مكة إلى الغار وسط جنون المشركين بحثا عن النبي - ﷺ - ليقتلوه، وعامر بن فهيرة الراعي يسدد أقدام المسيرة التاريخية بأغنامه كيلا يستدل بها القوم، ويمد النبي - ﷺ - وصاحبه باللحم واللبن، وعبد الله بن أريقط، دليل الهجرة الأمين، وخبير الصحراء البصير ينتظر في يقظة إشارة البدء من الرسول الكريم - ﷺ - ليأخذ الركب طريقه من الغار إلى المدينة، فهذا تدبير للأمور على نحو رائع دقيق، واحتياط للظروف بأسلوب حكيم، ووضع كل شخص في مكانه المناسب، وسد لجميع الثغرات، وتغطية جميلة لكل