وأعظم الناس تجربة وأكملهم حكمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لأنهم صفوة البشر اصطفاهم الله ربهم، ثم أرسلهم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومع هذا ما بعث الله من نبي إلا رعى الغنم، كما قال - ﷺ -: «نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» (١) والحكمة من ذلك - والله أعلم - أن الله - عز وجل - يلهم الأنبياء قبل النبوة رعي الغنم، ليحصل لهم التمرين والتجربة برعيها على ما يكلفونه من القيام بأمر أمتهم، ولأن في مخالطتهم ما يحصل لهم الحلم، والشفقة كما قال - ﷺ -: «أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة، وألين قلوبًا، الإيمان يمان، والحكمة يمانية، والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم» (٢)، ولأنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرقها في المرعى، ونقلها من مسرح إلى مسرح، ودفع عدوها، من سبع وغيره كالسارق، وعلموا اختلاف طبائعها، وشدة تفرقها مع ضعفها، واحتياجها إلى المعاهدة ألفوا من ذلك الصبر على الأمة وعرفوا اختلاف طبائعها وتفاوت عقولها، فجبروا كسرها، ورفقوا بضعيفها، وأحسنوا التعاهد لها، فيكون تحملهم المشقة ذلك أسهل مما لو كلفوا القيام بذلك من أول وهلة، لما يحصل لهم من التدريب على ذلك برعي الغنم، وخصت الغنم بذلك لكونها أضعف من غيرها، ولأن تفرقها أكثر من تفرق الإبل والبقر، لإمكان ضبط الإبل والبقر بالربط دونها في العادة المألوفة، ومع أكثرية تفرقها فهي أسرع انقيادا من غيرها(٣).

(١) البخاري، كتاب الإجارة، باب: رعي الغنم (٣/٦٥).
(٢) مسلم، كتاب الإيمان، باب: تفاضل أهل الإيمان (١/٧١).
(٣) انظر: الحكمة في الدعوة إلى الله، ص١٠٤.


الصفحة التالية
Icon