كانت رحلة طويلة من الرعاية والتوجيه، ومن التلقي والتجريب، قبل وحي الله له بالنبوة: (تجربة الرعاية والحب والتدليل، وتجربة الاندفاع تحت ضغط الغيظ الحبيس، وتجربة الندم والتحرج والاستغفار، وتجربة الخوف والمطاردة والفزع، وتجربة الغربة والوحدة والرجوع، وتجربة الخدمة ورعي الغنم بعد حياة القصور وما يتخلل هذه التجارب الضخمة من شتى التجارب الصغيرة، والمشاعر المتباينة، والخوالج والخواطر، والإدراك والمعرفة إلى جانب ما آتاه الله حين بلغ أشده من العلم والحكمة، إن الرسالة تكليف ضخم شاق متُعدد الجوانب والتبعات، يحتاج إلى زاد ضخم من التجارب والإدراك والمعرفة والتذوق في واقع الحياة العملي، إلى جانب هبة الله اللدنية، ووحيه وتوجيه للقلب والضمير) (١).
إن الله تعالى أراد أن يربي موسى عليه السلام بالأحداث قبل الرسالة، ولهذا دخل بقدرة الله إلى مجتمع الرعاة، مستشعرًا النعمة في أن يكون راعي غنم يجد القوت والمأوى بعد الخوف والجوع والمطاردة والمشقة.
وعاش مع البسطاء في أخلاقهم وعاداتهم وخشونتهم وفقرهم وهذا كله تمرين له على تكاليف الدعوة التي سيتحملها.
إن التجارب الميدانية أقوى وأفيد في تربية النفوس البشرية من قراءة الكتب والمجلدات والجرائد، ومن الندوات والحلقات الهادئة البعيدة عن المحن والشدائد والصعاب.
إن الشعوب التي تربت على الذل والخنوع والمهانة والقسوة في العادة تفقد القدرة على التفكير والتدبير وتنتظر من يقودها نحو حريتها وكرامتها وعزتها.
وإن هذا القرآن الكريم ليمد الطلائع المتحفزة نحو التغيير بخبرات الأنبياء والمرسلين والذين سعوا لتحرير شعبهم من الظلم والجبروت والطغيان ويضع أيديهم على مفاصل التغيير في الأمم والشعوب وكيفية السعي بها من الضعف ومن دياجير الظلام وأغلال العبودية للعبيد إلى القوة ونور الحريات، وعبادة الواحد الديان.

(١) المصدر نفسه (٣/٦٤).


الصفحة التالية
Icon