لقد احتج فرعون على إيمان السحرة وأرغى وأزبد، لأنهم آمنوا بدون إذنه:﴿آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ﴾ [الأعراف: ١٢٢]، كأنما كان عليهم أن يستأذنوه في أن تنتفض قلوبهم للحق، وهم أنفسهم لا سلطان لهم عليها، أو يستأذنوه في أن ترتعش وجداناتهم وهم أنفسهم لا يملكون من أمرها شيئًا، ولكنه الطاغوت جاهل غير مطموس، وهو في الوقت ذاته متعجرف متكبر مغرور.
ثم إنه الفزع على العرش المهدد والسلطان المهزوز، والمسألة واضحة المعالم إنها دعوة موسى إلى رب العالمين هي التي تزعج وتخيف، إنه لا بقاء ولا قرار لحكم الطواغيت مع الدعوة إلى رب العالمين، وهم إنما يقوم ملكهم على تنحية ربوبية الله للبشر بتنحية شريعته وإقامة أنفسهم أربابًا من دون الله؛ يشرعون للناس ما يشاءون ويعبدون الناس لما يشرعون، إنهما منهجان لا يجتمعان، أو هما دينان لا يجتمعان، أو هما ربان لا يجتمعان. وهكذا أطلق فرعون ذلك التوعد الوحشي الفظيع: ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ - لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الأعراف: ١٢٤، ١٢٣].
إنه التعذيب والتشويه والتنكيل وسيلة الطواغيت في مواجهة الحق الذي لا يملكون دفعه بالحجة والبرهان، وعدة الباطل في وجه الحق الصريح.
ولكن النفس البشرية حين تستعلي فيها حقيقة الإيمان تستعلي على قوة الأرض وتستهين ببأس الطغاة، وتنتصر فيها العقيدة على الحياة، وتختصر الفناء الزائل إلى جوار الخلود المقيم، إنها لا تقف لتسأل ماذا ستأخذ وماذا ستدع، ماذا ستقبض وماذا ستدفع، ماذا ستخسر وماذا ستكسب، وماذا ستلقى في الطريق من صعاب وأشواك وتضحيات؛ لأن الأفق المشرق الوضئ أمامها هناك، لا تنظر إلى شيء في الطريق (١).

(١) المصدر السابق (٣/١٣٥١، ١٣٥٢).


الصفحة التالية
Icon