والجرف: موضع قرب المدينة، وهذه التعاليم الإنسانية الرفيعة، استمدها الصديق - رضي الله عنه - من فهمه العميق لحقيقة الإسلام وهي ترد على كل من يتهم الإسلام بأنه دين الهمجية والوحشية والعسف(١).
وسار أسامة حتى انتهى لما أمره به رسول الله - ﷺ -، فبعث الجنود إلى بلاد قضاعة وأغار أسامة على «أبني» فسبى وغنم، ورجع إلى المدينة ظافرا بعد أن غاب عنها أربعين يوما، وكان إنفاذ جيش أسامة من أعظم الأمور نفعا للمسلمين، فإن العرب قالوا: «لولا أن لهؤلاء قوة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم ولكن ندعهم حتى يلقوا الروم، فلقوا الروم فهزموهم وقتلوهم ورجعوا سالمين فثبتوا على الإسلام»(٢).
لقد أثبتت الأيام والأحداث سلامة رأي الصديق وصواب قراره الذي اعتزم تنفيذه معتمدا في ذلك على الدقة التامة في التزام المنهج النبوي، والأمر النبوي، والتصميم الملهم في وقته المناسب والنظر البعيد إلى المستقبل.
وقد اعترف كبار الصحابة بصواب ما ذهب إليه الصديق ورد عمر فيما بعد قولته المشهورة: «ليلة من أبي بكر خير من عمر وآل عمر»(٣).
إن بعث أسامة في تلك اللحظة الحرجة لم يحدث أي أثر سلبي على الموقف الإسلامي العام كما ظن الكثيرون، بل على العكس فإنه أحدث آثارا إيجابية أفادت الموقف العسكري والسياسي والدعوى آنيا وفيما بعد، فقد أحدث هذا الجيش في أثناء مسيرته رعبا وخوفا لدى القبائل وأصحاب الأديان الأخرى الذين اشرأبت أعناقهم عندما رأوا الفتنة قد ذر قرنها في الجزيرة العربية بعد وفاة النبي - ﷺ -، فكان الجيش لا يمر بحي من أحياء العرب إلا أرعبوا منهم وقالوا: «ما خرج هؤلاء من قوم إلا وبهم منعة شديدة»(٤). ولهذا فإن بعث أسامة كان حربا نفسية رائعة فيما حققته من مكاسب.

(١) انظر: الخلفاء الراشدون، عبد الوهاب النجار، ص٤٧.
(٢) البداية والنهاية (٦/٣٠٤، ٣٠٥).
(٣) الشورى بين الأصالة والمعاصرة، ص٨٤.
(٤) البداية والنهاية (٦/٣٠٨).


الصفحة التالية
Icon