وبهذا التعريف يتبين ويتضح أن الحكمة لا تقتصر على الكلام اللين أو الترغيب، أو الحلم، أو الرفق، أو العفو... بل هي إتقان الأمور وإحكامها بأن تنزل جميع الأمور منازلها، فيوضع القول الحكيم والتعليم والتربية في مواضعها، وتوضع الموعظة في موضعها، والمجادلة بالتي هي أحسن في موضعها، ومجادلة الظالم المعاند في موضعها كما قال -عز وجل-: (وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [العنكبوت: ٤٦]، ويوضع الزجر، والقوة، والغلظة، والشدة والسيف في مواضعها، وهذا هو عين الحكمة، وقد قال أحكم الحاكمين لسيد الحكماء والناس أجمعين: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ) [التوبة: ٧٣] كل ذلك بإحكام وإتقان ومراعاة لأحوال المدعوين، والأزمان، والأماكن في مختلف العصور والبلدان، وبإحسان القصد والرغبة فيما عند الكريم المنان(١). ومن أراد البرهان العملي على ذلك فعليه أن ينظر إلى ما كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعاملته لأصناف الناس، وهو الذي أعطاه الله من الحكمة ما لم يعط أحدًا من العالمين(٢).
ومن أفضل التعريفات للحكمة التي يعرف بها علاقتها بالوسطية تعريفي الشيخ عبد الرحمن السعدي، والأستاذ سيد قطب رحمهم الله.
قال عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله-: (الحكمة: هي العلوم النافعة، والمعارف الصائبة، والعقول المسددة، والألباب الرزينة، وإصابة الصواب في الأقوال والأفعال، ثم قال: وجميع الأمور لا تصح إلا بالحكمة التي هي وضع الأشياء في مواضعها، وتنزيل الأمور منازلها، والإقدام في محل الإقدام، والإحجام في موضع الإحجام)(٣).
(٢) انظر: التفسير لابن القيم (٣٤٤).
(٣) انظر: تفسير السعدي (١/٣٣٢).