خامسًا: أنه ليس من الغلو طلب الأكمل في كمية العبادة، بل يدخل في تحديد الأكمل أمور عدة تتعلق بالعمل، وبمن قام بالعمل، وكذلك من له صلة بهذا العمل.
فالصدقة –مثلا- يراعي فيها: المتصدق والمتصدق عليه، والمال المتصدق به، ولا يسمى كمالا كليا بالنظر للكمال الجزئي، وذكر ابن حجر –رحمه الله- ما يؤيده هذا المعنى ونسبه إلى ابن المنير فقال: وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة، فإنه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدي إلى الملل أو المبالغة في التطوع المفضى إلى ترك الأفضل(١).
سادسًا: أن الحكم على العمل بأنه غلو، أو أن هذا المرء من الغلاة، باب خطير لا يقدر عليه إلا العلماء الذين يدركون حدود هذا العمل، وتبحروا في علوم العقائد وفروعها، لأن الحكم على الشيء فرع من تصوره، فقد يكون الأمر مشروعا ويوصف صاحبه بالغلو، وها نحن نرى اليوم أن الملتزمين بشرع الله، المتمسكين بالكتاب والسنة يوصفون بالغلو والتطرف والتزمت ونحوها، ولذلك فإن المعيار في الحكم على الأعمال والأفراد والجماعات هو الكتاب والسنة وليست الأهواء والتقاليد والأعراف والعقول، وما تعارف عليه الناس، وقد ضل في هذا الباب أمم وأفراد وجماعات.
وبعد أن اتضح لنا معنى (الغلو) لغة وشرعا، وما يتعلق به من معان وأقسام، أوضح معنى (الإفراط) بإيجاز، حيث ستتضح صلته بالغلو.
ثانيا: الإفراط:
لغة هو: التقدم ومجاوزة الحد.
قال ابن فارس: يقال: أفرط: إذا تجاوز الحد في الأمر، ويقولون: إياك والفرط، أي لا تجاوز القدر، وهذا هو القياس، لأنه إذا جاوز القدر فقد أزال الشيء عن وجهته(٢).
وقال الجوهري: وأفرط في الأمر: أي جاوز في الحد(٣).

(١) انظر: فتح الباري (١/٩٤)، والغلو في الدين (٨٥).
(٢) مقاييس اللغة، كتاب الفاء والراء (٤/٤٩٠).
(٣) انظر: الصحاح مادة (فرط) (٣/١١٤٨).


الصفحة التالية
Icon