وفي الظلال :
" تشير هذه السورة إلى حادث مستفيض الشهرة في حياة الجزيرة العربية قبل البعثة، عظيم الدلالة على رعاية الله لهذه البقعة المقدسة التي اختارها الله لتكون ملتقى النور الأخير، ومحضن العقيدة الجديدة، والنقطة التي تبدأ منها زحفها المقدس لمطاردة الجاهلية في أرجاء الأرض، وإقرار الهدى والحق والخير فيها......
وتختلف الروايات هنا في تحديد نوع هذه الجماعات من الطير، وأشكالها، وأحجامها، وأحجام هذه الحجارة ونوعها وكيفية فعلها. كما أن بعضها يروي أن الجدري والحصبة ظهرا في هذا العام في مكة.
ويرى الذين يميلون إلى تضييق نطاق الخوارق والغيبيات، وإلى رؤية السنن الكونية المألوفة تعمل عملها، أن تفسير الحادث بوقوع وباء الجدري والحصبة أقرب وأولى. وأن الطير قد تكون هي الذباب والبعوض التي تحمل الميكروبات، فالطير هو كل ما يطير.
قال الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في تفسيره للسورة في جزء عم :« وفي اليوم الثاني فشا في جند الجيش داء الجدري والحصبة.. قال عكرمة : وهو أول جدري ظهر ببلاد العرب. وقال يعقوب بن عتبة فيما حدث : إن أول ما رؤيت الحصبة والجدري ببلاد العرب ذلك العام. وقد فعل الوباء بأجسامهم ما يندر وقوع مثله. فكان لحمهم يتناثر ويتساقط فذعر الجيش وصاحبه وولوا هاربين، وأصيب الجيش، ولم يزل يسقط لحمه قطعة قطعة، وأنملة أنملة حتى انصدع صدره ومات في صنعاء.
»
هذا ما اتفقت عليه الروايات، ويصح الاعتقاد به. وقد بينت لنا هذه السورة الكريمة أن ذلك الجدري أو تلك الحصبة نشأت من حجارة يابسة سقطت على أفراد الجيش بواسطة فرق عظيمة من الطير مما يرسله الله مع الريح «.
»
فيجوز لك أن تعتقد أن هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض، وأن تكون هذه الحجارة من الطين المسموم اليابس الذي تحمله الرياح فيعلق بأرجل هذه الحيوانات، فإذا اتصل بجسد دخل في مسامه، فأثار فيه تلك القروح التي تنتهي بإفساد الجسم وتساقط لحمه. وأن كثيراً من هذه الطيور الضعيفة يعد من أعظم جنود الله في إهلاك من يريد إهلاكه من البشر، وأن هذا الحيوان الصغير الذي يسمونه الآن بالمكروب لا يخرج عنها. وهو فرق وجماعات لا يحصي عددها إلا بارئها.. ولا يتوقف ظهور أثر قدرة الله تعالى في قهر الطاغين، على أن يكون الطير في ضخامة رؤوس الجبال، ولا على أن يكون من نوع عنقاء مغرب، ولا على أن يكون له ألوان خاصة به، ولا على معرفة مقادير الحجارة وكيفية تأثيرها.. فلله جند من كل شيء «.


الصفحة التالية
Icon