وفى العدول عن خطاب المؤمنين إلى خطاب النبي فى قوله تعالى :« مِنْ رَبِّكَ » بدلا « من ربهم » ـ فى هذا تكريم للنبى الكريم، وأنه من فضل ربّه عليه كان هذا العطاء الذي وسع المؤمنين جميعا.
وفى قوله تعالى :« حسابا » إشارة أخرى إلى أن هذا العطاء ذو صفتين :
فأولا، هو عطاء بحساب، حسب منازل المتقين عند اللّه، وحسب درجاتهم من التقوى، وثانيا، هو عطاء يكفى كل من نال منه، فلا تبقى له حاجة يشتهيها بعد هذا العطاء..
هذا، وقد أشرنا ـ فى غير موضع ـ إلى أن نعيم الجنة، وإن استجاب لكل ما تشتهى الأنفس وتلذ الأعين، فإنه يختلف بحسب مقام المتنعمين به، حيث تقّبلهم لهذا النعيم، واتساع قواهم له.. وهذا التقبل وهذا الاتساع يتبع مقام المتنعم ومنزلته عند اللّه.. وقد ضربنا لهذا مثلا بمائدة ممدودة عليها كل ما تشتهى الأنفس من طيبات، وحولها أعداد من المدعوين إليها.. فكلّ ينال منها قدر طاقته، وشهوته، وإن كانوا جميعا قد نالوا ما يشتهون منها.. ولكن شتان بين من أخذ لقيمات، وبين من قطف من كل ما عليها من ثمار! (١)
ثم يعرض المشهد المقابل : مشهد التقاة في النعيم. بعد مشهد الطغاة في الحميم : إن للمتقين مفازاً. حدآئق وأعناباً. وكواعب أتراباً. وكأساً دهاقاً. لا يسمعون فيها لغواً ولا كذاباً.. جزآء من ربك عطآء حساباً }..
فإذا كانت جهنم هناك مرصداً ومآباً للطاغين، لا يفلتون منها ولا يتجاوزونها، فإن المتقين ينتهون إلى مفازة ومنجاة، تتمثل ﴿ حدائق وأعناباً ﴾ ويخص الأعناب بالذكر والتعيين لأنها مما يعرفه المخاطبون.. ﴿ وكواعب ﴾ وهن الفتيات الناهدات اللواتي استدارت ثديهن ﴿ أتراباً ﴾ متوافيات السن والجمال. ﴿ وكأساً دهاقاً ﴾ مترعة بالشراب.
وهي مناعم ظاهرها حسي، لتقريبها للتصور البشري. أما حقيقة مذاقها والمتاع بها فلا يدركها أهل الأرض وهم مقيدون بمدارك الأرض وتصوراتها.. وإلى جوارها حالة يتذوقها الضمير ويدركها الشعور :﴿ لا يسمعون فيها لغواً ولا كذاباً ﴾.. فهي حياة مصونة من اللغو ومن التكذيب الذي يصاحبه الجدل؛ فالحقيقة مكشوفة لا مجال فيها لجدل ولا تكذيب؛ كما أنه لا مجال للغو الذي لا خير فيه.. وهي حالة من الرفعة والمتعة تليق بدار الخلود..
﴿ جزاء من ربك عطاء حساباً ﴾.. ونلمح هنا ظاهرة الأناقة في التعبير والموسيقى في التقسيم بين ﴿ جزاء ﴾ و ﴿ عطاء ﴾.. كما نلمحها في الإيقاع المشدود في الفواصل كلها على وجه التقريب.. وهي الظاهرة الواضحة في الجزء كله إجمالاً.

(١) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (١٥ / ١٤٢٣)


الصفحة التالية
Icon