عَنِ الضَّحَّاكِ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ قَالَ : صَلِّ لِرَبِّكَ وَسَلْ " وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَتَأَوَّلُ قَوْلَهُ : وَانْحَرْ وَاسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ بِنَحْرِكَ. وَذُكِرَ أَنَّهُ سُمِعَ بَعْضُ الْعَرَبِ يَقُولُ : مَنَازِلُهُمْ تَتَنَاحَرُ : أَيْ هَذَا بِنَحْرِ هَذَا : أَيْ قُبَالَتَهُ. وَذُكِرَ أَنَّ بَعْضَ بَنِي أَسَدٍ أَنْشَدَهُ :
أَبَا حَكَمٍ هَلْ أَنْتَ عَمُّ مُجَالِدٍ وَسَيِّدُ أَهْلِ الْأَبْطَحِ الْمُتَنَاحِرِ
أَيْ يَنْحَرُ بَعْضُهُ بَعْضًا. وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ عِنْدِي بِالصَّوَابِ : قَوْلُ مَنْ قَالَ : مَعْنَى ذَلِكَ : فَاجْعَلْ صَلَاتَكْ كُلَّهَا لِرَبِّكَ خَالِصًا دُونَ مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْآلِهَةِ، وَكَذَلِكَ نَحْرُكَ اجْعَلْهُ لَهُ دُونَ الْأَوْثَانِ، شُكْرًا لَهُ عَلَى مَا أَعْطَاكَ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالْخَيْرِ الَّذِي لَا كُفْءَ لَهُ، وَخَصَّكَ بِهِ، مِنْ إِعْطَائِهِ إِيَّاكَ الْكَوْثَرَ. وَإِنَّمَا قُلْتُ : ذَلِكَ أَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَخْبَرَ نَبِيَّهُ - ﷺ - بِمَا أَكْرَمَهُ بِهِ مِنْ عَطِيَّتِهِ وَكَرَامَتِهِ، وَإِنْعَامِهِ عَلَيْهِ بِالْكَوْثَرِ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ قَوْلَهُ : فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، فَكَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ أَنَّهُ خَصَّهُ بِالصَّلَاةِ لَهُ، وَالنَّحْرِ عَلَى الشُّكْرِ لَهُ، عَلَى مَا أَعْلَمَهُ مِنَ النِّعْمَةِ الَّتِي أَنْعَمَهَا عَلَيْهِ، بِإِعْطَائِهِ إِيَّاهُ الْكَوْثَرَ، فَلَمْ يَكُنْ لِخُصُوصِ بَعْضِ الصَّلَاةِ بِذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ، وَبَعْضِ النَّحْرِ دُونَ بَعْضٍ وَجْهٌ، إِذْ كَانَ حَثًّا عَلَى الشُّكْرِ عَلَى النِّعَمِ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذَنْ : إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ الْكَوْثَرَ، إِنْعَامًا مِنَّا عَلَيْكَ بِهِ، وَتَكْرُمَةً مِنَّا لَكَ، فَأَخْلِصْ لِرَبِّكَ الْعِبَادَةَ، وَأَفْرِدْ لَهُ صَلَاتَكَ وَنُسُكَكَ، خِلَافًا لِمَا يَفْعَلُهُ مَنْ كَفَرَ بِهِ، وَعَبَدَ غَيْرَهُ، وَنَحَرَ لِلْأَوْثَانِ " (١)
إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ أي إن مبغضك يا محمد، ومبغض ما جئت به من الهدى والحق والبرهان الساطع والنور المبين هو الأبتر الأقل الأذل المنقطع عن خيري الدنيا والآخرة، والذي لا يبقى ذكره بعد موته. وهذا رد على ما قال بعض المشركين وهو العاص بن وائل عن النبي - ﷺ - لما مات ابنه عبد اللَّه من خديجة : إنه أبتر، وهذا قول ابن عباس ومقاتل والكلبي وعامة أهل التفسير.
والأبتر من الرجال : الذي لا ولد له. وعن ابن عباس : نزلت في أبي جهل.
وهذا يعم جميع من اتصف بعداوة النبي - ﷺ - ممن ذكر في سبب النزول وغيرهم. (٢)
ومضات :
قال ابن كثير : والآية تعم جميع من اتصف بذلك، ممن ذكر وغيرهم.
وقال الإمام : كان المستهزئون من قريش كالعاص بن وائل وعقبة بن أبي معيط وأبي لهب وأمثالهم، إذا رأوا أبناء رسول الله - ﷺ - يموتون، يقولون : بتر محمد، أي : لم يبق له ذكر في أولاده من بعده، ويعدون ذلك عيباً يلمزونه به وينفرون به الناس من أتباعه، وكانوا إذا رأوا
(٢) - انظر تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (٣٠ / ٢٥٣)