فالآيتان (٤، ٥) تدلان على الاختلاف في العبادة نفسها. ويرى بعضهم كالزمخشري : وما كنت قط في الحال أو في الماضي عابدا ما عبدتم، يعني لم تعهد مني عبادة صنم في الجاهلية، فكيف ترجى مني في الإسلام ؟ ! وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته.
وقيل : في الآيات تكرار، والغرض التأكيد، لقطع أطماع الكفار عن أن يجيبهم رسول اللَّه - ﷺ - إلى ما سألوه من عبادته آلهتهم.
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ أي لكم شرككم أو كفركم، ولي ديني وهو التوحيد والإخلاص أو الإسلام، فدينكم الذي هو الإشراك، لكم لا يتجاوزكم إليّ، وديني الذي هو التوحيد مقصور علي لا يتجاوزني، فيحصل لكم. وقيل : الدين : الجزاء، والمضاف محذوف، أي لكم جزاء دينكم، ولي جزاء ديني. وقيل : الدين : العبادة.
وليست السورة منسوخة بآية القتال، والمحققون على أنه لا نسخ، بل المراد التهديد، كقوله تعالى : اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت ٤١/ ٤٠].
ونظير هذه الآية قوله تعالى : وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ : لِي عَمَلِي، وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ، وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس ١٠/ ٤١] وقوله : لَنا أَعْمالُنا، وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ [القصص ٢٨/ ٥٥]. والمراد بذلك كله التهديد، لا الرضا بدين الآخرين.
وقد استدل الإمام أبو عبد اللَّه الشافعي وغيره بهذه الآية الكريمة : لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ على أن الكفر كله ملة واحدة، فورّث اليهود من النصارى وبالعكس إذا كان بينهما نسب أو سبب يتوارث به لأن الأديان ما عدا الإسلام كلها كالشيء الواحد في البطلان. (١)
وذهب أحمد بن حنبل ومن وافقه إلى عدم توريث النصارى من اليهود وبالعكس، لحديث عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِىَّ - ﷺ - قَالَ :« لاَ يَتَوَارَثَ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى » (٢)..
قال الرازي : جرت عادة الناس بأن يتمثلوا بهذه الآية لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ عند المتاركة، وذلك غير جائز لأنه تعالى ما أنزل القرآن ليتمثل به، بل ليتدبر فيه، ثم يعمل بموجبه (٣).
ومضات :
ونقل ابن كثير عن الإمام ابن تيمية أن المراد بقوله :﴿ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴾ نفي الفعل، لأنها جملة فعلية ﴿ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ﴾ نفي قبوله لذلك بالكلية، لأن النفي بالجملة الاسمية آكد، فكأنه نفى الفعل وكونه قابلاً لذلك، ومعناه نفي الوقوع ونفي الإمكان الشرعي أيضاً، وهو قول حسن. واختار الإمام كون ﴿ مَّا ﴾ في الأوليين موصولة وفيما بعدها مصدرية، قال : فمفاد

(١) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (٣٠ / ٤٤٣)
(٢) - السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (٦ / ٢١٨) (١٢٥٩١) صحيح
(٣) - تفسير الرازي : ٣٢/ ١٤٨


الصفحة التالية
Icon