والبصير بما في قلوب المخلصين والمنافقين، فلا يذهب عليه رياء المرائين ﴿ وَاسْتَغْفِرْهُ ﴾ أي : اسأله أن يغفر لك ولأصحابك ما كان من القلق والضجر والحزن، لتأخر زمن النصر والفتح. والاستغفار إنما يكون بالتوبة الخالصة. والتوبة من القلق إنما تكون بتكميل الثقة بوعد الله، وتغليب هذه الثقة على خواطر النفس التي تحدثها الشدائد، وهو وإن كان مما يشق على نفوس البشر، ولكن الله علم أن نفس نبيه - ﷺ - قد تبلغ ذلك الكمال ؛ فلذلك أمره به، وكذلك تقاربه قلوب الكمّل من أصحابه وأتباعه عليه السلام. والله يتقبل منهم
إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً } أي : إنه سبحانه لا يزال يوصف بأنه كثير القبول للتوبة، لأنه ربٌّ يربي النفوس بالمحن، فإذا وجدتْ الضعف أنهضها إلى طلب القوة، وشدد همها بحسن الوعد، ولا يزال بها حتى تبلغ الكمال، وهي في كل منزلة تتوب عن التي قبلها، وهو سبحانه يقبل توبتها فهو التواب الرحيم. وكأن الله يقول : إذا حصل الفتح وتحقق النصر وأقبل الناس على الدين الحق، فقد ارتفع الخوف وزال موجب الحزن، فلم يبق إلا تسبيح الله وشكره والنزوع إليه عما كان من خواطر النفس، فلن تعود الشدة تأخذ نفوس المخلصين ما داموا على تلك الكثرة في ذلك الإخلاص. ومن هذا أخذ النبي - ﷺ - أن الأمر قد تم ولم يبق له إلا أن يسير إلى ربه، فقال فيما روي عنه :< إنه قد نعيت إليه نفسه >. هذا ملخص ما أورده الإمام في تفسيره.
تنبيهات :
الأول : قال ابن كثير : المراد بالفتح هاهنا فتح مكة قولاً واحداً ؛ فإن أحياء العرب كانت تتلوّم بإسلامها فتح مكة، يقولون : إن ظهر على قومه فهو نبيّ. فلما فتح الله عليه مكة، دخلوا في دين الله أفواجاً، فلم تمض سنتان حتى استوسقت جزيرة العرب إيماناً، ولم يبق في سائر قبائل العرب إلا مظهِر للإسلام ولله الحمد والمنة. وقد روى البخاري في" صحيحه" عن عمرو بن سلمة : كنا بماءٍ ممرَّ الناس، وكان يمرُ بنا الركبان فنسألهم : ما للناس ؟ ما للناس ؟ ما هذا الرجل ؟ فيقولون : يزعم أن الله تعالى أرسله أوحى إليه، أو أوحى الله بكذا، فكنت أحفظ ذلك الكلام وكأنما يُغزى في صدري. وكانت العرب تَلَوَّمُ بإسلامهم الفتح، فيقولون : اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق. فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم وبدر أبي قومي بإسلامهم.... الحديث.
الثاني : قال الرازي : إذا حملنا الفتح على فتح مكة، فللناس في وقت النزول هذه السورة قولان :
أحدهما : أن فتح مكة كان سنة ثمان. ونزلت هذه السورة سنة عشر، وروي أنه < عاش بعد نزول هذه السورة سبعين يوماً > ؛ ولذلك سميت سورة التوديع.