المسلمين روي أنه بلغ أربعين ألفا أو أكثر - وهذا رقم عظيم في ذلك الوقت - حتى هتف اللّه تعالى بالمؤمنين أو هتف النبي - ﷺ - مرددا هتاف اللّه - الذي نزل قبل هذا اليوم على ما محصناه في سياق أوائل سورة المائدة - الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [٣].
وحجة الوداع المشار إليها قد تمّت في أواخر السنة الهجرية العاشرة. فلقد فتح اللّه تعالى على رسوله مكة في رمضان في السنة الثامنة. ولم يكن الشرك قد اندحر بالمرة عن ربوعها. وكان المشركون ما يزالون يقومون بطقوس حجهم فيها.
فلم تشأ حكمة اللّه ورسوله أن يحج النبي - ﷺ - حجته التامة والمشركون شركاء في حجه. ولما كانت مكة وما جاورها قد دخلت في سلطانه فقد عيّن وزيره الصدّيق أبا بكر رضي اللّه عنه أميرا على الحجّ في السنة التاسعة وأمره أن يعلن للملأ حظر دخول منطقة المسجد الحرام على المشركين وبراءة اللّه ورسوله منهم على ما شرحناه في سورة التوبة. فلما كانت السنة العاشرة خرج على رأس حشد عظيم من المسلمين من أهل المدينة وقبائلها ليحج بالناس حجة لا يشهدها إلّا المسلمون وهي التي عرفت بحجة الوداع لأنه مات - ﷺ - بعدها بمدة قصيرة ونزلت فيها هذه السورة التي احتوت نعيا له وسميت سورة التوديع بسبب ذلك. وقد وافاه إلى مكة حشود عظيمة أخرى من المسلمين من مختلف أنحاء الجزيرة فكان أعظم حجّ تمّ في عهده بل نعتقد أنه كان أعظم حجّ وقع إلى عهده. وإذا كان عدد الذين اشتركوا في غزوة تبوك بلغ ثلاثين ألفا كما ذكرنا في سياق سورة التوبة فلا مبالغة في تخمين عدد الذين شهدوا هذا الحج بضعف هذا العدد وهو رقم عظيم جدّا في ذلك الوقت.
وخبر حجة الوداع ورد مطولا بطرق مختلفة في كتب الحديث والسيرة والتاريخ القديمة مرويّا عن التابعين من أصحاب رسول اللّه - ﷺ -. وقد روى مسلم وأبو داود حديثا طويلا فيه وصف شائق لموكب الحجّ وكثير من أفعال وأقوال ومواقف رسول اللّه - ﷺ - التعليمية والتوضيحية والتشريعية والتهذيبية. فرأينا إيراده برمته. وهو مروي عن صاحب رسول اللّه جابر بن عبد اللّه في أيام شيخوخته جوابا على سؤال من أحد التابعين. وهذا نصه «١» «إن رسول اللّه - ﷺ - مكث تسع سنين لم يحجّ «٢» ثم أذّن في الناس في العاشرة أن رسول اللّه حاج فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتمّ برسول اللّه ويعمل مثل عمله. وخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس «٣» محمد بن أبي بكر فأرسلت إلى رسول اللّه كيف أصنع؟ قال : اغتسلي واستثفري «٤» بثوب وأحرمي. فصلّى رسول اللّه في المسجد ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مدّ بصري بين يديه من راكب وماش وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك ورسول اللّه بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن


الصفحة التالية
Icon