لما أبان اللَّه تعالى أمر الألوهية في سورة الإخلاص لتنزيه اللَّه عما لا يليق به في ذاته وصفاته، أبان في هذه السورة وما بعدها وهما المعوذتان ما يستعاذ منه باللَّه من الشر الذي في العالم، ومراتب مخلوقاته الذين يصدون عن توحيد اللَّه، كالمشركين وسائر شياطين الإنس والجن، وقد ابتدأ في هذه السورة بالاستعاذة من شر المخلوقات، وظلمة الليل، والسحرة، والحسّاد، ثم ذكر في سورة الناس الاستعاذة من شر شياطين الإنس والجن لذا سميت السور الثلاثة (الإخلاص وما بعدها) في الحديث بالمعوّذات. وقدمت الفلق على الناس لمناسبة الوزان في اللفظ لفواصل الإخلاص مع مقطع تَبَّتْ.
وقال الخطيب :" تقرر فى سورة « الإخلاص » ما ينبغى أن يكون عليه مفهوم المخلوقين للخالق سبحانه وتعالى، من تفرده بالألوهية، وتنزيهه أن يكون والدا أو مولودا، وعن أن تكون له نسبة إلى المخلوقات، إلا نسبة الدلالة على قدرته وحكمته، وعلمه، وأنها جميعها مفتقرة إليه فى وجودها، وفى بقائها، وأنه سبحانه لا مثيل له، ولا شبيه، ولا كفء ولا ندّ..
هذا ما أمر اللّه سبحانه النبي أن يؤمن به أولا، ثم أن يؤذن به فى الناس..
ثم جاءت بعد هذا سورتا المعوذتين، « الفلق » و« الناس » تقرران هذه الحقيقة، وتؤكدانها فى مجال التطبيق العملي لآثارها، وذلك بدعوة النبىّ والناس جميعا أن يعوذوا بربهم، وأن يستظلوا بحمى ربوبيته من كل ما يسوءهم، أو ما يتوقع أن يعرض له بسوء، فذلك هو الإيمان باللّه سبحانه، والإقرار بسلطانه القائم على هذا الوجود، وأنه وحده الذي تتجه الوجوه كلها إليه فى السراء والضراء.. فهو سبحانه القادر على كل شىء، وهو سبحانه الذي بيده مقاليد كل شىء.. أما المخلوقون فهم جميعا على سواء فى الحاجة إلى اللّه، وفى الافتقار إليه، غنيهم وفقيرهم، قويهم وضعيفهم :« يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ »
« إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ »..
وقد صدّرت سورة الإخلاص، والمعوذتين بعدها، بقوله تعالى :« قل » وهذا الأمر بالقول داخل فى مقول القول الذي يقوله النبي، ويقوله كل من يتأسّون به، فمطلوب من النبي، ومن المؤمنين أن يقولوا :« قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ.. قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ.. قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ».. فهذا الأمر بالقول، هو قرآن متعبد به، وهو يعنى أن القرآن كلمات اللّه، وأنه لا تبديل لكلمات اللّه، وأن هذه الكلمات قد انطبعت فى قلب النبىّ صلوات اللّه وسلامه عليه، فهو يقرؤها من كتاب قلبه كما أنزلت عليه، دون تبديل فيها.. فإذا قيل له ـ صلوات اللّه وسلامه عليه :« قُلْ سُبْحانَ رَبِّي ».. قال :« قُلْ سُبْحانَ رَبِّي »..
وإذا قيل له « قُلْ : إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ » قال :« قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ » وإذا قيل له :« يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ » ؟