وروى الحافظ أبو يعلي الموصلي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ - : إِنَّ الشَّيْطَانَ وَاضِعٌ خَطْمَهُ عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، فَإِنْ ذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ، وَإِنْ نَسِيَ الْتَقَمَ قَلْبَهُ فَذَلِكَ الْوَسْوَاسُ الْخَنَّاسُ (١)
وعَنْ رَجُلٍ قَالَ كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِىِّ - ﷺ - فَعَثَرَتْ دَابَّتُهُ فَقُلْتُ تَعِسَ الشَّيْطَانُ. فَقَالَ « لاَ تَقُلْ تَعِسَ الشَّيْطَانُ فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ ذَلِكَ تَعَاظَمَ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ الْبَيْتِ وَيَقُولَ بِقُوَّتِى وَلَكِنْ قُلْ بِسْمِ اللَّهِ فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ ذَلِكَ تَصَاغَرَ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ الذُّبَابِ ». (٢)
وفيه دلالة على أن القلب متى ذكر اللَّه تصاغر الشيطان وغلب، وإن لم يذكر اللَّه تعاظم وغلب.
ثم أبان موضع وسوسته، فقال : الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ أي الذي يلقي خواطر السوء والشرّ في القلوب، وإنما ذكر الصدور لأنها تحتوي على القلوب، والخواطر محلها القلب، كما هو المعهود في كلام العرب.
ثم بيّن اللَّه تعالى أن الذي يوسوس نوعان : جني وإنسي، فقال : مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أي أن ذلك الموسوس إما شيطان الجن، فيوسوس في صدور الناس، كما تقدم، وإما شيطان الإنس، ووسوسته في صدور الناس : أنه يري نفسه كالناصح المشفق، فيوقع في الصدر كلامه الذي أخرجه مخرج النصيحة، فيجعله فريسة وسوسة الشيطان الجني. وهذا يدل على أن الوسواس قد يكون من الجن وقد يكون من الناس، كما جاء في قوله تعالى : وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام ٦/ ١١٢] أي ليست العداوة قهرية جبرية، وإنما بما أودع اللَّه فيهم من قدرة الاختيار، فمنهم من يختار الإصغاء لوسوسة الشياطين، ومنهم من يحذر عداوتهم ووسوستهم.
ومضات :
وقال الإمام : إنما جعل الوسوسة في الصدور، على ما عهد في كلام العرب من أن الخواطر في القلب، والقلب مما حواه الصدر عندهم، وكثيراً ما يقال : إن الشك يحوك في صدره، وما الشك إلا في نفسه وعقله، وأفاعيل العقل في المخ، وإن كان يظهر لها أثر في حركات الدم وضربات القلب وضيق الصدر أو انبساطه.
وقوله تعالى :﴿ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ﴾ بيان للذي يوسوس على أنه ضربان : ضرب من الجِنَّة وهم الخلق المستترون الذين لا نعرفهم، وإنما نجد في أنفسنا أثراً ينسب إليهم، وضرب من الإنس كالمضلِّلين من أفراد الْإِنْسَاْن، كما قال تعالى :

(١) - مسند أبي يعلى الموصلي (٤٣٠١) صحيح لغيره
(٢) - سنن أبى داود (٤٩٨٤ ) صحيح


الصفحة التالية
Icon