وفي مواضع أخرى تفصيل للمناجاة بين موسى وربه في هذا الموقف.
فأما هنا فالمجال مجال اختصار وإيقاعات سريعة. ومن ثم يبادر السياق بحكاية أمر التكليف الإلهي لموسى، عقب ذكر النداء بالوادي المقدس طوى :﴿ اذهب إلى فرعون. إنه طغى. فقل : هل لك إلى أن تزكَّى! وأهديك إلى ربك فتخشى؟ ﴾..
﴿ اذهب إلى فرعون. إنه طغى ﴾.. والطغيان أمر لا ينبغي أن يكون ولا أن يبقى. إنه أمر كريه، مفسد للأرض، مخالف لما يحبه الله، مؤد إلى ما يكره.. فمن أجل منعه ينتدب الله عبداً من عباده المختارين. ينتدبه بنفسه سبحانه. ليحاول وقف هذا الشر، ومنع هذا الفساد، ووقف هذا الطغيان.. إنه أمر كريه شديد الكراهية حتى ليخاطب الله بذاته عبداً من عباده ليذهب إلى الطاغية، فيحاول رده عما هو فيه، والإعذار إليه قبل أن يأخذه الله تعالى نكال الآخرة والأولى!
﴿ إذهب إلى فرعون. إنه طغى ﴾.. ثم يعلمه الله كيف يخاطب الطاغية بأحب أسلوب وأشده جاذبية للقلوب، لعله ينتهي، ويتقي غضب الله وأخذه :﴿ فقل : هل لك إلى أن تزكى؟ ﴾.. هل لك إلى أن تتطهر من رجس الطغيان ودنس العصيان؟ هل لك إلى طريق الصلاة والبركة؟ ﴿ وأهديك إلى ربك فتخشى ﴾.. هل لك أن أعرفك طريق ربك؟ فإذا عرفته وقعت في قلبك خشيته؟ فما يطغى الإنسان ويعصي إلا حين يذهب عن ربه بعيداً، وإلا حين يضل طريقه إليه فيقسو قلبه ويفسد، فيكون منه الطغيان والتمرد!
كان هذا في مشهد النداء والتكليف. وكان بعده في مشهد المواجهة والتبليغ. والسياق لا يكرره في مشهد التبليغ. اكتفاء بعرضه هناك وذكره. فيطوي ما كان بعد مشهد النداء، ويختصر عبارة التبليغ في مشهد التبليغ. ويسدل الستار هنا ليرفعه على ختام مشهد المواجهة :﴿ فأراه الآية الكبرى. فكذب وعصى ﴾..
لقد بلغ موسى ما كلف تبليغه. بالأسلوب الذي لقنه ربه وعرفه. ولم يفلح هذا الأسلوب الحبيب في إلانة القلب الطاغي الخاوي من معرفة ربه. فأراه موسى الآية الكبرى. آية العصا واليد البيضاء كما جاء في المواضع الأخرى :﴿ فكذب وعصى ﴾.. وانتهى مشهد اللقاء والتبليغ عند التكذيب والمعصية في اختصار وإجمال!
ثم يعرض مشهداً آخر. مشهد فرعون يتولى عن موسى، ويسعى في جمع السحرة للمباراة بين السحر والحق. حين عز عليه أن يستسلم للحق والهدى :﴿ ثم أدبر يسعى. فحشر فنادى. فقال : أنا ربكم الأعلى ﴾..