ويسارع السياق هنا إلى عرض قولة الطاغية الكافرة، مجملاً مشاهد سعيه وحشره للسحرة وتفصيلاتها. فقد أدبر يسعى في الكيد والمحاولة، فحشر السحرة والجماهير؛ ثم انطلقت منه الكلمة الوقحة المتطاولة، المليئة بالغرور والجهالة :﴿ أنا ربكم الأعلى ﴾..
قالها الطاغية مخدوعاً بغفلة جماهيره، وإذعانها وانقيادها. فما يخدع الطغاة شيء ما تخدعهم غفلة الجماهير وذلتها وطاعتها وانقيادها. وما الطاغية إلا فرد لا يملك في الحقيقة قوة ولا سطاناً.
إنما هي الجماهير الغافلة الذلول، تمطي له ظهرها فيركب! وتمد له أعناقها فيجر! وتحني له رؤوسها فيستعلي! وتتنازل له عن حقها في العزة والكرامة فيطغى!
والجماهير تفعل هذا مخدوعة من جهة وخائفة من جهة أخرى. وهذا الخوف لا ينبعث إلا من الوهم. فالطاغية وهو فرد لا يمكن أن يكون أقوى من الألوف والملايين، لو أنها شعرت بإنسانيتها وكرامتها وعزتها وحريتها. وكل فرد فيها هو كفء للطاغية من ناحية القوة ولكن الطاغية يخدعها فيوهمها أنه يملك لها شيئاً! وما يمكن أن يطغى فرد في أمة كريمة أبداً. وما يمكن أن يطغى فرد في أمة رشيدة أبداً. وما يمكن أن يطغى فرد في أمة تعرف ربها وتؤمن به وتأبى أن تتعبد لواحد من خلقه لا يملك لها ضراً ولا رشداً!
فأما فرعون فوجد في قومه من الغفلة ومن الذلة ومن خواء القلب من الإيمان، ما جرؤ به على قول هذه الكلمة الكافرة الفاجرة :﴿ أنا ربكم الأعلى ﴾.. وما كان ليقولها أبدا لو وجد أمة واعية كريمة مؤمنة، تعرف أنه عبد ضعيف لا يقدر على شيء. وإن يسلبه الذباب شيئاً لا يستنقذ من الذباب شيئاً!
وأمام هذا التطاول الوقح، بعد الطغيان البشع، تحركت القوة الكبرى :﴿ فأخذه الله نكال الآخرة والأولى ﴾..
ويقدم هنا نكال الآخرة على نكال الأولى.. لأنه أشد وأبقى. فهو النكال الحقيقي الذي يأخذ الطغاة والعصاة بشدته وبخلوده.. ولأنه الأنسب في هذا السياق الذي يتحدث عن الآخرة ويجعلها موضوعه الرئيسي.. ولأنه يتسق لفظياً مع الإيقاع الموسيقي في القافية بعد اتساقه معنوياً مع الموضوع الرئيسي، ومع الحقيقة الأصيلة.
ونكال الأولى كان عنيفاً قاسياً. فكيف بنكال الآخرة وهو أشد وأنكى؟ وفرعون كان ذا قوة وسلطان ومجد موروث عريق؛ فكيف بغيره من المكذبين؟ وكيف بهؤلاء الذين يواجهون الدعوة من المشركين؟
﴿ إن في ذلك لعبرة لمن يخشى ﴾.. فالذي يعرف ربه ويخشاه هو الذي يدرك ما في حادث فرعون من العبرة لسواه. أما الذي لا يعرف قلبه التقوى فبينه وبين العبرة حاجز، وبينه وبين