يديك من نور اللّه!! « أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى. فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى. وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى. وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى. وَهُوَ يَخْشى. فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ».
أليس ذلك كذلك ؟ ألم يكن هذا موقفك ؟
وكلّا.. إن الأمر ليس على هذا الوجه.. كما سنبين لك.
وفى قوله تعالى :« جاءك يسعى » إشارة إلى الرغبة المنبعثة من صدر هذا الأعمى، والتي تدفعه دفعا إلى أن يحثّ الخطا، وأن يسعى إلى النبي فى انطلاق وشوق، مع أنه قى قيد العمى والعجز.
وقوله تعالى :« وهو يخشى » حال أخرى، من فاعل :« جاءك » أي تلك حال هذا الأعمى، إنه جاءك ساعيا إليك، خاشيا للّه..
وقوله تعالى :« فأنت عنه تلهى ».. إشارة إلى أن ما كان فيه النبي ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ من حديث مع هؤلاء المشركين المعاندين من قومه، وأنه حديث لا محصّل له، ولا ثمرة من ورائه، إذ كان القوم معرضين عنه، متكرهين له.. فكأنه إنما يتلهى بهذا الحديث، الذي لا يجىء بثمر.. وإن كان ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ جادّا فى هذا الحديث كل الجد، مقبلا عليه كل الإقبال، ولكنه إنما يضرب فى حديد بارد، أشبه بمن يريد أن بستنبت الزرع فى الصخر الصلد.. فمن رآه على تلك الحال لم يقع فى نفسه إلا أنه يتلهى بما يعمل.. (١)
تنبيهات :
الأول : قال السيوطي في " الإكليل " : في هذه الآيات حث على الترحيب بالفقراء والإقبال عليهم في مجلس العلم وقضاء حوائجهم، وعدم إيثار الأغنياء عليهم. وقال الزمخشري : لقد تأدب الناس بأدب الله في هذا تأدباً حسناً. فقد روي عن سفيان الثوريّ رحمه الله أن الفقراء كانوا في مجلسه أمراءَ.
الثاني : في هذه الآيات ونحوها دليل على عدم ضنِّه - ﷺ - بالغيب. قال ابن زيد : كان يقال : لو أن رسول الله - ﷺ - كتم من الوحي شيئاً، كتم هذا عن نفسه.
الثالث : قال الرازي : القائلون بصدور الذنب عن الأنبياء عليهم السلام تمسكوا بهذه الآية، وقالوا : لمّا عاتبه الله في ذلك الفعل دل على أن ذلك الفعل كان معصية. وهذا بعيد فإنا قد بينا أن ذلك كان هو الواجب المتعين، إلا بحسب هذا الاعتبار الواحد، وهو أنه يوهم تقديم الأغنياء على الفقراء. وذلك غير لائق بصلابة الرسول عليه السلام، وإذا كان كذلك، كان ذلك جارياً مجرى ترك الاحتياط وترك الأفضل ؛ فلم يكن ذلك ذنباً البتة.