والإساءة، وأن تضع بين يدى الإنسان ميزانا سليما يضع فى إحدى كفتيه ما أحسن اللّه به إليه، ويضع فى الكفة الأخرى ما يقدر عليه من شكر، وذلك بإحسان العمل، كما يقول سبحانه :« وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ». (٧٧ : القصص) فإذا رأى الإنسان الكفة التي وضع فيها إحسان اللّه إليه ملأى بالعطايا والمنن، ثم لم يضع فى الكفة الأخرى شيئا فى مقابل هذا الإحسان، بل وتجاوز هذا، فملأ الكفة كفرا باللّه، ومحادة للّه ولأوليائه ـ فأىّ إنسان هو؟ وأي جزاء يجزى به؟
وفى اختيار صفة « الكريم » للّه سبحانه وتعالى فى هذا المقام، من بين صفاته الكريمة جل شأنه ـ فى هذا إلفات إلى هذا الإحسان العظيم الذي أفاضه اللّه على الإنسان، وإلى مقدار جحود الإنسان وكفرانه، وضلاله، مع هذا الفضل الغامر، الذي يجده الإنسان فى كل ذرة من ذراته، ومع كل نفس من أنفاسه.. و فى قوله تعالى :« ما غرك » إنكار على الإنسان أن يدعوه توالى الإحسان عليه، وتكاثر النعم بين يديه، إلى أن يتخذ من ذلك أسلحة يحارب بها ربه المحسن الكريم..
وكرم الكريم، وإحسان المحسن، إذا قوبل ممن أكرم وأحسن إليه، بالاستخفاف، ثم النكران والجحود، ثم بالحرب والعدوان على الحدود ـ كان من مقتضى الحكمة والعدل معا، أن يؤدّب هذا الجاحد المنكر، وأن يذوق مرارة الحرمان، كما ذاق حلاوة الإحسان.. وإلا فقد الإحسان معناه، وذهب ريحه الطيب، الذي يجده الذين يعرفون قدره، ويؤدون حقه..
يقول المتنبى :
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
ووضع الندى فى موضع السيف بالعلا مضرّ كوضع السيف فى موضع الندى
وقد تأول بعض المتأولين هذه الآية تأويلا فاسدا، حين أقاموا منها حجة لأهل الزيغ والضلال، يلقون بها ربهم، إذا سئل أحدهم من ربه :« ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ؟ » فيقول فى قحة، وبلا حياء :« غرّنى كرمك » !! إن ذلك مكر باللّه، واللّه أسرع مكرا! ونعم، إن اللّه كريم كرما لا حدود له.. ولكن هذا الكرم، لا يقع إلا حيث المواقع التي تحيا به، وتثمر أطيب الثمر فى ظله.. إنه كرم بحكمة، وحساب وتقدير.. « وَ كُلُّ شَيْ ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ » (٨ : الرعد) ولقد وسع كرمه سبحانه، سيئات المسيئين، فتقبل توبتهم، وجعل السيئة سيئة، والحسنة عشرا، إلى سبعمائة، وأضعاف السبعمائة :« وَ اللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ». (٢٦١


الصفحة التالية
Icon