﴿يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾ (١) فلم يزل الإشكال إلا بمعرفة سبب النزول.
ولولا بيان سبب النزول لظل الناس إلى يومنا هذا يبيحون تناول المسكرات وشرب الخمور أخذا بظاهر قوله تعالى في سورة المائدة: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا﴾( سورة المائدة ٩٣) فقد حكي عن عثمان بن مظعون وعمرو بن معديكرب أنهما كانا يقولان: الخمر مباحة، ويحتجان بهذه الآية، وخفي عليهما سبب نزولها، فإنه يمنع من ذلك، وهو ما قاله الحسن وغيره: لما نزل تحريم الخمر قالوا: كيف بإخواننا الذين ماتوا وهي في بطونهم، وقد أخبرنا الله أنها رجس! فأنزل الله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا﴾ (٢).
ولولا بيان أسباب النزول لأباح الناس لأنفسهم التوجه في الصلاة إلى الناحية التي يرغبون، عملا بالمتبادر من قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾( سورة البقرة ١١٥). ولكن الذي يطلع على سبب نزول الآية يستنتج أنها عالجت حال نفر من المؤمنين صلوا مع النبي عليه الصلاة والسلام في ليلة مظلمة فلم يدروا كيف القبلة، فصلى كل رجل منهم على حاله" (٣) تبعا لاجتهاده، فلم يضع الله لأحد منهم عمله، وأثابه الرضى عن صلاته ولو لم يتجه إلى الكعبة، لأنه لم يكن له إلى معرفة القبلة سبيل في ظلام الليل البهيم!.
صيغة سبب النزول
تنقسم صيغة سبب النزول إلى قسمين:
(أ) الصيغة الصريحة: تكون صيغة سبب النزول نصاً صريحاً في السببية إذا قال الراوي: "سبب نزول هذه الآية كذا". ومثل هذه العبارة أن يذكر الراوي سؤالاً، أو حادثة، كأن يقول: (سئل رسول الله - ﷺ - عن كذا فنزلت الآية) أو: (حدث كذا فنزلت الآية). وقد لا يصرح بالإِنزال، ولكن يفهم من قول الراوي بأن الآية أو الآيات نزلتَ بسبب هذا السؤال أو الحادثة.
(ب) الصيغة المحتملة: وتكون صيغة سبب النزول محتملة للسببية، إذا قال الراِوي: "نزلت أو أنزلت هذه الآية في كذا ". فهذه العبارة ليست نصاً صريحاَ في السببية لأنها تحتمل السببية وتحتمل بيان المعنى، وما تضمنته الآية من الأحكام.
(٢) - البرهان ١/ ٢٨ "وقارن بأسباب النزول للواحدي ١٩٦، وتفسير ابن كثير ١/ ٩٧، والإتقان ١/ ٥٣".
(٣) - أسباب النزول "للواحدي" ص٢٥.