فإذن السماء لربها : استسلامها وطاعتها لأمره في الانشقاق، ﴿ وحقت ﴾.. أي وقع عليها الحق. واعترفت بأنها محقوقة لربها. وهو مظهر من مظاهر الخضوع، لأن هذا حق عليها مسلم به منها.
والجديد هنا كذلك هو مد الأرض :﴿ وإذا الأرض مدت ﴾.. وقد يعني هذا مط رقعتها وشكلها، مما ينشأ عن انقلاب النواميس التي كانت تحكمها، وتحفظها في هذا الشكل الذي انتهت إليه والمقول إنه كري أو بيضاوي والتعبير يجعل وقوع هذا الأمر لها آتياً من فعل خارج عنها، مما يفيده بناء الفعل للمجهول :﴿ مدت ﴾.
﴿ وألقت ما فيها وتخلت ﴾.. وهو تعبير يصور الأرض كائنة حية تلقي ما فيها وتتخلى عنه. وما فيها كثير. منه تلك الخلائق التي لا تحصى، والتي طوتها الأرض في أجيالها التي لا يعلم إلا الله مداها. ومنه سائر ما يختبئ في جوف الأرض من معادن ومياه وأسرار لا يعلمها إلا بارئها. وقد حملت هذا أجيالاً بعد أجيال، وقروناً بعد قرون. حتى إذا كان ذلك اليوم : ألقت ما فيها وتخلت..
﴿ وأذنت لربها وحقت ﴾.. هي الأخرى كما أذنت السماء لربها وحقت. واستجابت لأمره مستسلمة مذعنة، معترفة أن هذا حق عليها، وأنها طائعة لربها بحقه هذا عليها..
وتبدو السماء والأرض بهذه الآيات المصورة ذواتي روح. وخليقتين من الأحياء. تستمعان للأمر، وتلبيان للفور، وتطيعان طاعة المعترف بالحق، المستسلم لمقتضاه، استسلاماً لا التواء فيه ولا إكراه.
ومع أن المشهد من مشاهد الانقلاب الكوني في ذلك اليوم. فإن صورته هنا يظللها الخشوع والجلال والوقار والهدوء العميق الظلال. والذي يتبقى في الحس منه هو ظل الاستسلام الطائع الخاشع في غير ما جلبة ولا معارضة ولا كلام!
وفي هذا الجو الخاشع الطائع يجيء النداء العلوي للإنسان، وأمامه الكون بسمائه وأرضه مستسلماً لربه هذا الاستسلام :﴿ يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه ﴾..
﴿ يا أيها الإنسان ﴾.. الذي خلقه ربه بإحسان؛ والذي ميزه بهذه « الإنسانية » التي تفرده في هذا الكون بخصائص كان من شأنها أن يكون أعرف بربه، وأطوع لأمره من الأرض والسماء. وقد نفخ فيه من روحه، وأودعه القدرة على الاتصال به، وتلقي قبس من نوره، والفرح باستقبال فيوضاته، والتطهر بها أو الارتفاع إلى غير حد، حتى يبلغ الكمال المقدر لجنسه، وآفاق هذا الكمال عالية بعيدة!