الذي توقد به. وهم قوم من الكفار في نجران اليمن طلبوا من المؤمنين باللَّه عزّ وجلّ أن يرجعوا عن دينهم، فأبوا عليهم، فحفروا لهم في الأرض أخدودا (شقا مستطيلا) وأجّجوا فيه نارا، وأعدّوا لها وقودا يسعرونها به، ثم أرادوهم أن يرجعوا عن دينهم، فلم يقبلوا منهم، فقذفوهم فيها. وقد أشار سبحانه إلى عظم النار إشارة مجملة بقوله : ذاتِ الْوَقُودِ أي لها ما يرتفع به لهبها من الحطب الكثير وأبدان الناس.
إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ، وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ أي لعنوا حين أحدقوا بالنار، قاعدين على الكراسي عند الأخدود، وهؤلاء الذين حفروا الأخدود، وهم الملك وأصحابه، مشاهدون لما يفعل بأولئك المؤمنين، من عرضهم على النار ليرجعوا إلى دينهم، ويشهدون بما فعلوا يوم القيامة، حيث تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم.
وهذا أي حضورهم الإحراق دليل على أنهم قوم غلاظ الأكباد قساة القلوب، تمكّن الكفر والباطل منهم، وتجرّدوا عن الإنسانية، وفقدوا الرحمة، ودليل أيضا على أن المؤمنين كانوا أشد صلابة من الجبال في دينهم والإصرار على إيمانهم وحقهم في حرية الاعتقاد.
ثم ذكر اللَّه تعالى سبب هذا التعذيب والإحراق بالنار، فقال : وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أي إن هؤلاء الكفار الجبابرة ما أنكروا عليهم ذنبا إلا إيمانهم، ولا عابوا على المؤمنين إلا أنهم صدقوا باللَّه الغالب الذي لا يغلب، المحمود في كل حال، وهو مالك السموات والأرض، وإليه الأمر كله، ومن كان بهذه الصفات، فهو حقيق بأن يؤمن به ويوحّد، واللَّه شاهد عالم بما فعلوا بالمؤمنين، لا تخفى عليه خافية، ومجازيهم بأفعالهم. وأشار بقوله : الْعَزِيزِ إلى أنه لو شاء لمنع أولئك الجبابرة من تعذيب أولئك المؤمنين، ولأطفأ نيرانهم وأماتهم، وأشار بقوله : الْحَمِيدِ إلى أن المعتبر عنده سبحانه من الأفعال عواقبها، فهو وإن كان قد أمهل لكنه ما أهمل، فإنه سيثيب المؤمنين، ويعاقب أولئك الكفرة.
وقوله : وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ وعيد شديد لأصحاب الأخدود، ووعد بالخير لمن عذّب من المؤمنين على دينه، فصبر ولم يتراجع في موقف الشدة.
ونظير الآية قوله تعالى : يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ [المائدة ٥/ ٥٩].
ومضات :
في الآيات قسم رباني بالأقسام الثلاثة بأن لعنة اللّه قد حقّت على الذين حفروا الأخدود وأججوا فيه النيران وألقوا فيه المؤمنين وهم جالسون يشهدون عذابهم دون أن تأخذهم الشفقة عليهم. ولم يكن لهم ذنب يغضبهم عليهم إلّا أنهم آمنوا باللّه وحده.